الغريبة
عضو مشاغب
من فضلك قم بتحديث الصفحة لمشاهدة المحتوى المخفي
ثق بربك.. لا بنفسك
بسم الله الرحمن الرحيم،
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد:
كنت أتأمل أوراق التعريف والدعاية لكثير من
الدورات التدريبية التي تجد إقبالا متزايداً في واقع عامة الناس،
لكونها تنتشر تحت مظلات نفسية أو تربوية أو إدارية،
فوجدت أن القاسم المشترك بينها هو:
الوعد بإيقاد شعلة "الثقة بالنفس" بما أسموه
برمجة عصبية، أو تنويماً إيحائياً، أو طاقة بشرية أو كونية..
والهدف من ورائها هو تحرير النفس من العجز والكسل
والسلبية لتنطلق إلى مضمار الحياة بفاعلية وإيجابية،
وتصل إلى النجاح والتميّز والقدرات الإبداعية.
قطع علي تأملاتي صوت ابنتي تقرأ بفاتحة الكتاب:
{إِيَّاكَ نَعبُدُ وإِيَّاكَ نَستَعِينُ} [الفاتحة:5]،
عندها سألت نفسي
هل ما أحتاجه للفاعلية والإيجابية والهمة الوقادة العلية
هو أن أثق بنفسي، وأستعين بذاتي وقدراتي وإمكاناتي، تأملت..
وتأملت ثم كتبت أسطري هذه بعنوان "ثق بربك لا بنفسك":
الثقة بالنفس.. كلمات جميلة براّقة..
كلمات يرسم لها الخيال في الذهن صورة جميلة،
ظلالها بهيجة.. لذلك تجد الدعوة إلى "الثقة بالنفس"
منطلق لترويج كثير من التطبيقات والتدريبات..
فكل أحد يطمع في أن يمتلكها،
وكل أحد يودّ لو يغير واقع حياته عليها.
ولكن.. قف معي لحظةَ!
تعال معي أيها القارئ الكريم نتأمّل جمالها:
إنها صورة ذلك الإنسان الذي يمشي بخطوات ثابتة وجنان مطمئن..
إنها صورة ذلك الصامد في وجه أعاصير الفتن..
إنها صورة ذلك المبتسم المتفائل برغم الصعاب..
إنها صورة ذلك الذي يجيد النهوض بعد أي كبوة..
إنها صورة ذلك الذي يمشي نحو هدفه
لا يلتفت ولا يتردد.. ما أجملها من صورة!
لذلك تجد الدعوة إلى "الثقة بالنفس"
منطلق لترويج كثير من التطبيقات والتدريبات..
فكل أحد يطمع في أن يمتلكها، وكل أحد يودّ لو يغير واقع حياته عليها..
ولكن.. قف معي لحظة، وتأمل هذه النصوص:
{هَل أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهرِ لَم يَكُن شَيئًا مَّذكُورًا}
[الإنسان:1].
{يأَيٌّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيٌّ الحَمِيدُ} [فاطر:15].
{وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء من الآية:28].
{وَلاَ تَقولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَدًا . إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ}
[الكهف من الآيتين:23-24].
{إِيَّاكَ نَعبُدُ وإِيَّاكَ نَستَعِينُ} [الفاتحة:5].
وتفكّر معي في معاني هذه الدعوات المشروعة:
"اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك،
أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي ".
"اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك،
فإنك تعلم ولا أعلم ".
"اللهم لا حول ولا قوة لي إلا بِك".
"اللهم إني أبرأ من حولي وقوتي إلى حولك وقوّتك".
"اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي".
"اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك فأهلك".
"اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
ألا ترى معي -أيها القارئ الكريم-
أن النفس فيها تتربى على أن تعترف بعجزها وفقرها،
وتقرّ بضعفها وذلّها، ولكنها لاتقف عند حدود هذا الاعتراف
فتعجز وتُحبط وتكسل، وإنما تطلب قوّتها من ربها،
وتسعى وتعمل وتتذلل لمن بـ "كن" يُقدرها على ما يريد،
ويُلين لها الحديد، ويعطيها فوق المزيد.
هذه -يا أحبّة- هي طريقة الإسلام في التعامل مع النفس،
والترقّي بها، وتتلخّص في: إنه المنهج الذي تعترف
فيه النفس بفقرها وذلّها، وتتبرأ من حولها وقوّتها،
وتطلب من مولاها عونه وقوّته وتوفيقه وتسديده..
فيعطيها جلَّ جلاله، ويكرمها ويُعليها.
أولا: تعريفها بحقيقتها، فقد خلقها الله من عدم،
وجبلها على ضعف، وفطرها على النقص والاحتياج والفقر.
ثانيًا: دلالتها على المنهج الذي يرفعها من هذا الضعف والفقر الذي
جُبلت عليه، لتكون برغم صفاتها هذه أكرم خلق الله أجمعين!!
تكريمٌ قد تجاوز به مكانة من خلقهم ربهم من نور،
وجبلهم على الطاعة ونقّاهم من كل خطيئة "الملائكة الأبرار".
ثالثًا: تذكيرها بأن هناك من يريد إضلالها عن هذا الطريق
بتزيين غيره مما يشتبه به لها، وحذّرها من اتّباعه،
وأكد لها عداوته، وأبان لها طرق مراغمته.
إنه المنهج الذي تعترف فيه
النفس بفقرها وذلّها، وتتبرأ من حولها وقوّتها،
وتطلب من مولاها عونه وقوّته وتوفيقه وتسديده..
فيعطيها جلَّ جلاله، ويكرمها ويُعليها.
منهج تعترف فيه بضعفها واحتياجها،
وتستعين فيه بخالقها ليغنيها ويعطيها،
ويقيها شر ما خلقه فيها..
فيقبلها ويهديها، ويسددها ويُرضيها.
منهج تتخذ فيه النفس أهبة الاستعداد
لعدوّها المتربص بها ليغويها، فتستعيذ بربها منه،
وتدفعه بما شرع لها فإذا كيده ضعيف،
وإذا قدراته مدحورة عن عباد الله المخلصين..
فقد أعاذهم ربهم وكفاهم وحماهم هو مولاهم،
فنِعم المولى ونِعم النصير.
إنه منهج يضاد منهج قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي}
[القصص من الآية:78].
إنه منهج ينابذ منهج الأبرص والأقرع:
"إنما ملكته كابراً عن كابر"
(صحيح مسلم [2964]).
إنه منهج يتبرّأ صاحبه أن يكون خصيماً مبيناً
لربه الذي خلقه وربّاه بنعمه، أو ينازعه عظمته وكبريائه.
إنه منهج لا يتوافق مع مذهب (القوة)
الذي يقول زعيمه نيتشه: "سنخرج الرجل السوبرمان
الذي لا يحتاج لفكرة الإله؟!".
إنه منهج يصادم منهج الثيوصوفي وليام جيمس ومذهبه البراجماتي،
وأتباعه باندلر وجرند، ومن سار على نهجهم من بعدهم:
" أنا أستطيع.. أنا قادر.. أنا غني.. أنا أجذب قدري..".
تأمّل هذا -أيها القارئ الكريم- ولا يشتبه عليك
قول الله عز وجل: {وَأَنتُمُ الأَعلَونَ} [آل عمران من الآية:139]،
فقد قال بعدها: {إِن كُنتُم مٌّؤمِنِينَ} [آل عمران من الآية:139]
فمنه يُستمد العلوّ، وبدوام الإلحاح والطلب منه تتحقق الرفعة..
احذر -أخي- ولا يشتبه عليك قول الرسول المصطفى ﷺ:
«المُؤمِنُ القَوِيٌّ خَيرٌ وَأَحَبٌّ إِلَى اللّهِ مِنَ المُؤمِنِ الضَّعِيفِ»
(صحيح مسلم [2664])
فالمؤمن القوي ليس قوياً من عند نفسه،
ولا بمقومات شخصيّته، تدريباته وبرمجته للاواعي!
وإنما هو قوي لاستعانته بربّه، وثقته في موعوداته الحقة.
تأمّل كلمات القوة من موسى -عليه السلام-
أمام البحر والعدو ورائه:
{قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهدِينِ} [الشعراء:62]،
ثقته ليست في نفسه، وقد أُعطي -عليه الصلاة والسلام-
من المعجزات وخوارق العادات ما أعطي!!!
وإنما ثقته بتوكّله على الذي يستطيع أن يجعله
فوق القدرات البشرية، بل يجعل لعصاه الخشبية
قدرات لا يستطيعها أساطين الطقوس السحرية.
تأمّل -أخي الكريم- هذه الكلمات النبوية
«واستَعِن بِاللّهِ وَلاَ تَعجِز» (صحيح مسلم [2664])،
إنها كلمات الحبيب ﷺ،
يربّي أمّته على منهج الإيجابية والفاعلية،
ليس على طريقة أهل البرمجة اللغوية العصبية.
لم يقل: تخيل قدرات نفسك..
لم يقل: أيقظ العملاق الذي في داخلك وأطلقه..
لم يقل: خاطب اللاواعي لديك برسائل ايجابية،
وبرمجه برمجةً وهمية..
وإنما دعاك -عليه الصلاة والسلام-
إلى الطريقة الربانية «واستَعِن بِاللّهِ وَلاَ تَعجِز».
فاستعن به وتوكل عليه،
ولا تعجزن بنظرك إلى قدراتك وإمكاناتك،
فأنت بنفسك ضعيف ظلوم جهول،
وأنت بالله عزيز.. أنت بالله قوي..
أنت بالله قادر.. أنت بالله غني..
ومن هذا الوجه، ومن منطلق فهم معاني العبودية،
وفقه النصوص الشرعية،
قال الشيخ الكريم والعلامة الجليل بكر أبو زيد
-حفظه الله- في كتابه (المناهي اللفظية):
"أن لفظة الثقة بالنفس لفظة غير شرعية ووراؤها مخالفة عقدية "
فإن رجوت -في زمان تخلّف عام يعصف بالأمة-
رفعة وعزة ونهضة وإيجابية..
وإن أردت تواصلا -على الرغم من الصعاب- بفاعلية.
وإن رغبت في نفض الإحباط عنك،
والتطلّع إلى الحياة بنظرة استشرافية تفاؤلية
فعليك بمنهج العبودية على الطريقة المحمدية،
ودع عنك طريقة باندلر وجرندر الإلحادية فوراءها ثقة وهمية
ممزوجة بطقوس سحرية، وقدرات تواصل مادية،
تشهد على فشلها فضائحهم الأخلاقية،
ومرافعاتهم القضائية التي ملئت سيرتهم الذاتية.
ومما زادني شرفاً وتيهًا *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيّرت أحمد لي نبياً
وصلى الله وسلم على نبينا محمد
والحمد لله رب العالمين
المصدر: مجموعة مواقع مداد
فوز بنت عبد اللطيف كردي
دكتوراه فلسفة التربية والدراسات الإسلامية،
تخصص العقيدة والمذاهب المعاصرة.
جامعة الملك عبد العزيز بجدة
رابط المادة:
يجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل لمشاهدة الرابط المخفي