الغريبة
عضو مشاغب
الفطرة السوية طريق السداد والرشاد
فيصل بن جميل غزاوي
عناصر الخطبة
1/الخَلْق مفطورون على الخير والفضائل
2/الدين الإسلامي دين الفطرة السليمة
3/سمات الفطرة السوية
4/العواقب الوخيمة لانتكاس الفطرة
5/الخصائص المميزة لكل من الذكر والأنثى
6/المآلات الخطيرة لانتكاس فطرة بعض الرجال وبعض النساء
7/الهداية والرشاد للفطرة السوية
8/خطورة الدعوة للتمرد على الفطرة السوية
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله خلَق الإنسانَ في أحسن تقويم، وأكرمَه أعظمَ تكريم، وهدى مَنْ شاء بفضله إلى دينه القويم، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، العلي العظيم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، الهادي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِكْ عليه، وعلى آله وصحبه، الذين فازوا بعز الدنيا، وفي الآخرة بالنعيم المقيم.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-؛ فتقوى الله عنوان السعادة، وعلامة الفَلَاح؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الْأَنْفَالِ: 29].
أيها المسلمون: إن الله -تعالى- خلَق الإنسانَ على فطرة سوية؛ وهي الخِلْقة التي خلَق اللهُ عبادَه عليها، وجعَلَهم مفطورينَ عليها، وعلى محبَّة الخير والفضائل والمحاسن، وكراهية الشر والمساوئ والقبائح، وفطَرَهم حنفاءَ مستعدينَ لقَبول الخير والإخلاص لله والتقرب إليه.
والدين الإسلامي ديـن الفطـرة السـليمة، فخالقُ الفطرة -جلَّ في علاه- هو الذي أنزل الدينَ القويمَ، وشرَعَه وارتضاه، ولم يقبل من أحد دينا سواه؛ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الرُّومِ: 30].
عبادَ اللهِ: وعلى الرغم من اختلاف البشر في مِلَلِهم ومشاربهم وأجناسهم، فإنهم لا يزالون متفقينَ على المحافَظة على إنسانيتهم؛ ليستمرَّ بقاؤهم، وتنتظم حياتهم.
وهذه الخِلقة التي خلَق اللهُ الناسَ عليها تأبى الشهواتِ الشاذةَ بحُكم فطرتها، وهذا في غالب الناس؛ إذ النادر لا حُكم له، بل هو شاذٌّ، فلا يُعتَدّ بمن طرأ على فطرته عارضٌ فأفسَدَها وطمَس بصيرتَها، حتى تختلَّ المفاهيمُ لديه؛ فيرى الحقَّ باطلًا والباطل حقًّا، والحسنَ قبيحًا، والقبيحَ حسنًا، والحلالَ حرامًا، والحرامَ حلالًا،
فعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله -ﷺ-:
"تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا،
فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ،
وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ؛
عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا،فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ،
وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا؛كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا،
إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاه".
عبادَ اللهِ: توحيد الله وعدم الإشراك به هو مقتضى الفطرة
التي فُطِرَتْ عليها البشريةُ كلُّها؛
فقد وُلِدَ الناسُ حنفاءَ على فطرة الإسلام،
قال عليه الصلاة والسلام:
"مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ"،
وجاء في الحديث القدسي: "إنِّي خلقتُ عبادي حنفاءَ، فاجتالَتْهم الشياطينُ"،
لكن عندما تنتكس الفطرةُ وتتعطَّل العقولُ يَضِلُّ العبادُ؛ فيُشركون بربهم،
ويعبدون الأصنامَ، والأحجارَ، والأشجارَ، والكواكب، والشيطان، والبقر، والفئران،
وغيرَها من المعبودات الباطلة، والآلهة الزائفة، التي تُعبَد من دون الرحمن،
ومع فساد فطرة هؤلاء، وفَقْدِهم الهدى، فهم يُصِرُّون على باطلهم،
ويستحِبُّون الكفرَ على الإيمان، حتى إن منهم مَنْ يبذُل جهدَه للصدِّ
عن سبيل الله وفتنة المؤمنين؛ لإخراجهم من عبادة الواحد الدَّيَّان
إلى عبادة الأوثان، وردِّهم عن دين الفطرة المستقيم
ليَضلوا مثلهم، ويكونوا من أصحاب الجحيم.
والاعترافُ بالخالق أمرٌ فطريٌّ ضروريٌّ في نفوس الناس، لكِنْ عندما تنتكِس الفطرةُ فمِنَ الناس من يكابر فطرته ويغالب عقله ويناقض البديهيات؛ فيُنكِر وجودَ الله -تعالى-، وينفي أن يكون لهذا الكون خالقٌ مدبِّرٌ، مع أن كلَّ ما في الكون والآفاق دلائلُ على وجوده وربوبيته، وشواهدُ على وحدانيته وقدرته.
وعند الشدائد والأهوال تستيقظ فطرةُ الإنسان؛ فيُفرِد ربه بالألوهية، كما قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)[الْإِسْرَاءِ: 67]، لكِنْ عندما تنتكس الفطرةُ عندَ بعض جهلة المتسمِّينَ بالإسلام إذا دهمتهم الشدائدُ وغشيتهم المحنُ والكروبُ تركوا دعاءَ الله، واستغاثوا بمن يعتقدون فيه الولايةَ والصلاحَ، وطلبوا منه العونَ والمددَ؛ فكانوا في ذلك أسوأَ من المشركين عبدةِ الأصنام، الذين كانوا عند حلول الحوادث العظام، والخطوب الجسام، يلجؤون إلى الله وحدَه، وينسَوْن آلهتَهم، طالبينَ النجاةَ كما قال -جل في علاه-: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 65].
أيها الإخوةُ: لقد جبَل اللهُ الذَّكَرَ والأنثى بخِلقة وطباع وخصائص، يتمايز بها كلٌّ منهما عن الآخَر، قال تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى)[آلِ عِمْرَانَ: 36]، وهذه خلقة الله لا تبديل لخلقته، وقد لَعَنَ رَسولُ اللَّهِ -ﷺ- المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال، لكِنْ عندما تنتكس الفطرةُ، فمن الشباب مَنْ يتنكَّر لطبيعته؛
فيتعمَّد مشابهة النساء: متأنثًا في ملبسه، متميعًا في كلامه، متغنِّجًا في ضحكه،
متكسِّرًا في مِشيته، وتلحَظ في هيئته ما لا يدلُّ على رجولته،
وقد يشتبه عليكَ أمرُه؛ أذَكَرٌ هو أم أنثى؛ ممَّا يبدو لكَ من مظهره،
وكذلك من الفتيات مَنْ تتنكَّر لطبيعتها، وتتخلَّى عن أنوثتها،
وتتمرَّد على فطرتها، فتتشبَّه بالرجال فيما يختصُّون به شرعًا أو عرفًا؛
من الكلام، أو الهيئة، أو اللباس، أو غير ذلك.
ومِنْ حكمةِ اللهِ البالغةِ أَنْ خلَق الزوجينِ الذكرَ والأنثى، وفطَر كلًّا منهما على الميل إلى الآخَر، والنكاحُ في الإسلام هو اقتران بين ذكَر وأنثى، وهو فطرة وحاجة إنسانية، يعطي لكلِّ واحدٍ من الزوجينِ حقَّ الاستمتاع بالآخَر على الوجه المشروع، لكِنْ عندما تنتكس الفطرةُ، فمن الشباب -مع استطاعته الزواج- فإنه يعزُف عنه؛ بحجة أنه ارتباط ومسؤولية وله تبعاتٌ، وكذلك مِنَ الفتيات مَنْ ترفض الزواجَ، ولا ترغب فيه معتقدةً أنه كبتٌ للحرية، وتحكُّمٌ في المرأة، وقد يعمَد مَنْ يختار العزوبةَ من الفتيان والفتيات -هداهم الله- إلى علاقات محرَّمة لإشباع نَهمتِهم وتحقيق مطمحهم، وعندما تنتكس الفطرةُ كذلك تُرتَكَب الكبائرُ، وتستساغ الرذائلُ والمناكرُ؛ كعمل قوم لوط والسِّحاق، وما يُعرَف بتبادُل الزوجات، وكذلك ما يُطلَق عليه زورًا وبهتانًا بزواج المثلِيِّينَ، وما هو بزواج، بل شذوذٌ، ومسخٌ للفطرة الإلهية السوية، وتغييرٌ للجِبِلَّة الإنسانية، ومخالفةٌ للغريزة التي وضعَها اللهُ في مخلوقاته، وهكذا فمتى ارتكَسَتْ فطرةُ المرء عاش حياةً هابطةً رخيصةً، لا يُبالي بما صار إليه حالُه من الخِسَّة، والانحطاط الخُلُقيّ.
وممَّا ابتليتُ به مجتمعاتُ المسلمين مؤخرًا، وكان من معاول هدم العلاقات الأسرية، والأواصر الاجتماعية، قيامُ بعض النساء -هداهن الله- بمخالَعة أزواجهم، لغير سبب شرعيّ، أو لأتفه الأسباب؛ بحجة أن تُصبِح المختلِعةُ حرةً غيرَ مقيدة، وقد يُسوِّل لها الشيطانُ بعد مخالعتها زوجَها إقامةَ علاقة محرَّمة مذمومة، تأثُّرًا بشبهات وأفكار مسمومة، تتجرَّع من جرَّائها الويلاتِ، وتجني من ورائها الحسراتِ.
والغَيرة -عباد الله- من طباع الفطرة الإنسانية السوية؛ فالرجل السويُّ يغار على أهله وعِرضه؛ فعندما بلغَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قولُ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ: "لو رَأَيْتُ رَجُلًا مع امْرَأَتي لَضَرَبْتُهُ بالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ عَنْهُ"، قالَ: "أَتَعْجَبُونَ مِن غَيْرَةِ سَعْدٍ، فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي..." الحديثَ، لكن عندما تنتكس الفطرةُ، يُضيِّع الرجلُ مسؤوليتَه، فلا ولايةَ ولا قوامةَ، ويُهمِل رعيتَه ولا يغار عليهم، بل يَرى المنكرَ في أهل بيته فلا يتمعَّر وجهُه، وقد جاء في الحديث: "ثَلَاثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْعَاقُّ، وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ".
إنَّ ممَّا فُطرت عليه النفسُ السويةُ، وجُبلت عليه الطباعُ المَرْضِيَّةُ الأنفةُ من الزنا واستهجانُ فعله؛ ولذلك لَمَّا سأل النبيُّ -ﷺ- ذلك الشابَّ الذي طلَب الإذنَ في الزنا قائلًا له: "أتحبُّه لأُمِّكَ؟ أتحبُّه لابنتِك؟ أتحبُّه لأختِك؟"،
كان الشاب يقولُ في كلّ واحدٍ: "لَا، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ"،
وهو -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يؤكِّد له أن الناس لا يُحِبُّونه، لا لقريب ولا لبعيد،
ولَمَّا بايَع النبيُّ -ﷺ- النساءَ، وأخَذ الميثاقَ عليهنَّ ألَّا يزنينَ،
قالت هندُ بنتُ عتبة: "يا رسول الله، أَوَتَزْنِي الحُرَّةُ؟!"؛ أَيْ: أيُعقَل أن تزني المرأةُ الحرةُ العفيفةُ، وهي تعلَم أنه فاحشةٌ ومنكرٌ وعارٌ، ولكن عندما تنتكس الفطرةَ ترى بعضَ النساء قد أضاعَتْ عفتَها، وباعَتْ عرضَها، ودنَّسَتْ شرفَها، فلا مراعاةَ لفضيلةٍ، ولا امتناعَ عن مقارفة الرذيلة.
عبادَ اللهِ: الحياءُ، والعفةُ، والمروءةُ، والشهامةُ، خصالٌ حميدةٌ، وسجايا كريمةٌ،
تتجاوب وتتناسَق مع الفطرة السليمة،
فهذا شاعر في الجاهلية قبل الإسلام يقول عن امرأة في عصره:
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ *** فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ
فحينَ سقَط خمارُها تناولَتْه، مغطيةً وجهَها بمعصميها، ولا غروَ؛ فالفطرة تدعو إلى حشمة المرأة وعفافها، والتستر وعدم التعري، لكِنْ عندما تنتكس الفطرة، فهناك من النساء من تنزع عنها ثوب الحياء، فلا تبالي بسفورها وتبرجها، وإبداء زينتها ومفاتنها أمام الرجال الأجانب،
وهذا شاعر جاهلي يصف حاله مِنْ غَضِّه طَرْفَه عن امرأة جارِه؛
تحشُّمًا واحترامًا لقَدْر الجار، وحفظًا لحقه، وحمايةً لعرضه، فيقول:
وَأَغُضُّ طَرْفِي إِنْ بَدَتْ لِي جَارَتِي *** حَتَّى يُوَارِي جَارَتِي مَثْوَاهَا
لكن عندما تنتكس الفطرة ينتهك المرءُ الحرماتِ؛ فيخون جارَه، ويعمَد إلى أذية نسائه والتحرش بهنَّ، وقد يرتكِب ما هو أشدُّ قبحًا، وأعظم جرمًا؛ فيزاني حليلةَ جاره، الذي عَدَّه النبيُّ -ﷺ- من أعظم الذنوب.
عبادَ اللهِ: والطهارة المعنوية والحسية متوافقةٌ مع الفطرة السليمة؛ فطهارة اللسان وجَمال المنطق مَنقَبةٌ فاضلةٌ، والبذاءةُ والسفاهةُ من الأخلاق السافلة، التي تنبو عنها النفوسُ الكريمةُ، ويأبى التخلقَ بها أصحابُ الفِطَرِ السليمةِ،
قال ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ"، لكِنْ عندما تنتكس الفطرةُ فلا يُستحيا من قبيح الكلام وفاحشه، بل تُصبح البذاءةُ والسفاهةُ مقبولةً مستساغةً، يَسهُل انتشارُها وجريانُها على الألسنة بلا نكيرٍ، والإنسانُ مجبولٌ على حُبِّ النظافةِ والجَمالِ، والنفور من النجاسة والأقذار، وقد حثَّ الإسلامُ على سُنَنِ الفطرةِ التي تعتني بنظافة الإنسان باطنًا وظاهرًا،
قال ﷺ: "الفطرَةُ خمسٌ: الختانُ، وحَلْقُ العانةِ، ونَتْفُ الإبطِ، وتقليمُ الأظافرِ، وحلقُ الشَّارب"، لكِنْ عندما تنتكس الفطرةُ يعارِض سلوكُ المرء طبيعتَها؛ فتظهر مساوئُ مخالَفَتِها، فقد يقع بعضُهم في مخالفة عدم تقليم أظفاره، وتركها تطول حتى يتخلَّلها العفنُ والأوساخُ، مع ما فيه من القُبح والتوحُّش، وقد يُزيَّن له أن ذلك من الزينة والجَمال.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ)[الرُّومِ: 43].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة،
أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ورضي به دِينًا عن سائر الأديان، وأرسل إلينا خير الأنام، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الْمَلِك العلَّام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، ومصطفاه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعدُ، فيا أيها المسلمون: الفطرةُ السويةُ عندما تسلَم من العوارض المؤثِّرة، تعرِف الحقَّ، وتتجه للخير، وتستقيم لربها، جاء في الحديث "أن النبي -ﷺ- ليلةَ أُسْرِيَ به، أُتِيَ بقَدَحَيْنِ: قَدَحِ لَبَنٍ، وقَدَحِ خَمرٍ، فنظَر إليهما، فأخَذ اللَّبَنَ، فقال جِبريلُ: الحَمدُ للهِ الذي هداكَ للفِطْرةِ، لو أخَذتَ الخَمرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ"،
قال النووي -رحمه الله-: "ومعناه -واللهُ أعلمُ- اخترتَ علامةَ الإسلام والاستقامة،
وجعَل اللبنَ علامة لكونه سهلًا طيبًا طاهرًا سائغًا، للشاربين، سليم العاقبة،
وأما الخمر فإنها أُمُّ الخبائث، وجالبةٌ لأنواع من الشر في الحال والمآل".
عبادَ اللهِ: وعلى قدر عمل الإنسان بهذا الدين والالتزام به والاستقامة عليه، تصحُّ الفطرةُ، وتُصرَف عنها المفسداتُ، وقد أدرَك أعداءُ الدينِ أن المجتمع المسلم فُطِرَ على أخلاق الإسلام، ولن ينحرف عن تعاليم الدين، ويسلك طريقَ الغواية إلا إذا تشوَّهت الفطرةُ في قلوب أبنائه، ومتى انحرفت السَّجِيَّة فلا واقٍ من انحراف السلوك، وسوء الأفعال، وفساد الأفكار.
معاشرَ المسلمينَ: ما أكثرَ الداعينَ إلى التمرد على الفطرة، ومن أولئك مَنْ يقوم بترويج ما يدعو إلى تبديل الفطرة وارتكاسِها، عبرَ وسائل التواصل الحديثة، وغيرها، فإذا أرَدْنا أن تستقيمَ حياتُنا، وننعَم بالسعادة فلا بدَّ أن نَثبُتَ على فطرتنا السوية، التي فطَرَنا اللهُ عليها، ونحذَر من انتكاستها، ونتمسَّكَ بهديِ ربِّنا ومنهجه القويم، ولا نُعرض عنه؛ فالإعراضُ عنه كفيلٌ بأن يُحِيلَ حياةَ الإنسان في دنياه وأخراه إلى شقاء وضيق وعذاب مستمرّ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124].
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد النبي الأُمِّيِّ، وعلى آل محمد، وارضَ اللهم عن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا منان.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودمِّرْ أعداءَكَ أعداءَ الدين، اللهم واحفظ بلاد الحرمين، من شر الأشرار، وأذية الفجار، وكيد الكائدين، ومكر الماكرين، ومن كل متربص وحاسد وحاقد، وعدو للإسلام والمسلمين.
اللهم واجعلها آمنةً مطمئنةً، رخاءً وسعةً، وسائر بلاد المسلمين، اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرا رشدا، يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويأمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والأدواء، والربا والزنا والزلازل، والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصةً، وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم كُنْ لإخواننا المستضعَفين والمجاهِدينَ في سبيلك، والمرابطينَ على الثغور، وحماة الحدود، اللهم كُنْ لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيِّدًا وظهيرًا، اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلِحِ الأئمةَ وولاةَ الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال،
يا حي يا قيوم، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم أحينا مسلمين،
وتوفنا مسلمين، غير مبدلين ولا مغيرين، وغير خزايا ولا مفتونين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ *
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصَّافَّاتِ: 180-182].
2/الدين الإسلامي دين الفطرة السليمة
3/سمات الفطرة السوية
4/العواقب الوخيمة لانتكاس الفطرة
5/الخصائص المميزة لكل من الذكر والأنثى
6/المآلات الخطيرة لانتكاس فطرة بعض الرجال وبعض النساء
7/الهداية والرشاد للفطرة السوية
8/خطورة الدعوة للتمرد على الفطرة السوية
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله خلَق الإنسانَ في أحسن تقويم، وأكرمَه أعظمَ تكريم، وهدى مَنْ شاء بفضله إلى دينه القويم، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، العلي العظيم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، الهادي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِكْ عليه، وعلى آله وصحبه، الذين فازوا بعز الدنيا، وفي الآخرة بالنعيم المقيم.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-؛ فتقوى الله عنوان السعادة، وعلامة الفَلَاح؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الْأَنْفَالِ: 29].
أيها المسلمون: إن الله -تعالى- خلَق الإنسانَ على فطرة سوية؛ وهي الخِلْقة التي خلَق اللهُ عبادَه عليها، وجعَلَهم مفطورينَ عليها، وعلى محبَّة الخير والفضائل والمحاسن، وكراهية الشر والمساوئ والقبائح، وفطَرَهم حنفاءَ مستعدينَ لقَبول الخير والإخلاص لله والتقرب إليه.
والدين الإسلامي ديـن الفطـرة السـليمة، فخالقُ الفطرة -جلَّ في علاه- هو الذي أنزل الدينَ القويمَ، وشرَعَه وارتضاه، ولم يقبل من أحد دينا سواه؛ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الرُّومِ: 30].
عبادَ اللهِ: وعلى الرغم من اختلاف البشر في مِلَلِهم ومشاربهم وأجناسهم، فإنهم لا يزالون متفقينَ على المحافَظة على إنسانيتهم؛ ليستمرَّ بقاؤهم، وتنتظم حياتهم.
وهذه الخِلقة التي خلَق اللهُ الناسَ عليها تأبى الشهواتِ الشاذةَ بحُكم فطرتها، وهذا في غالب الناس؛ إذ النادر لا حُكم له، بل هو شاذٌّ، فلا يُعتَدّ بمن طرأ على فطرته عارضٌ فأفسَدَها وطمَس بصيرتَها، حتى تختلَّ المفاهيمُ لديه؛ فيرى الحقَّ باطلًا والباطل حقًّا، والحسنَ قبيحًا، والقبيحَ حسنًا، والحلالَ حرامًا، والحرامَ حلالًا،
فعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله -ﷺ-:
"تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا،
فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ،
وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ؛
عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا،فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ،
وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا؛كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا،
إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاه".
عبادَ اللهِ: توحيد الله وعدم الإشراك به هو مقتضى الفطرة
التي فُطِرَتْ عليها البشريةُ كلُّها؛
فقد وُلِدَ الناسُ حنفاءَ على فطرة الإسلام،
قال عليه الصلاة والسلام:
"مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ"،
وجاء في الحديث القدسي: "إنِّي خلقتُ عبادي حنفاءَ، فاجتالَتْهم الشياطينُ"،
لكن عندما تنتكس الفطرةُ وتتعطَّل العقولُ يَضِلُّ العبادُ؛ فيُشركون بربهم،
ويعبدون الأصنامَ، والأحجارَ، والأشجارَ، والكواكب، والشيطان، والبقر، والفئران،
وغيرَها من المعبودات الباطلة، والآلهة الزائفة، التي تُعبَد من دون الرحمن،
ومع فساد فطرة هؤلاء، وفَقْدِهم الهدى، فهم يُصِرُّون على باطلهم،
ويستحِبُّون الكفرَ على الإيمان، حتى إن منهم مَنْ يبذُل جهدَه للصدِّ
عن سبيل الله وفتنة المؤمنين؛ لإخراجهم من عبادة الواحد الدَّيَّان
إلى عبادة الأوثان، وردِّهم عن دين الفطرة المستقيم
ليَضلوا مثلهم، ويكونوا من أصحاب الجحيم.
والاعترافُ بالخالق أمرٌ فطريٌّ ضروريٌّ في نفوس الناس، لكِنْ عندما تنتكِس الفطرةُ فمِنَ الناس من يكابر فطرته ويغالب عقله ويناقض البديهيات؛ فيُنكِر وجودَ الله -تعالى-، وينفي أن يكون لهذا الكون خالقٌ مدبِّرٌ، مع أن كلَّ ما في الكون والآفاق دلائلُ على وجوده وربوبيته، وشواهدُ على وحدانيته وقدرته.
وعند الشدائد والأهوال تستيقظ فطرةُ الإنسان؛ فيُفرِد ربه بالألوهية، كما قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)[الْإِسْرَاءِ: 67]، لكِنْ عندما تنتكس الفطرةُ عندَ بعض جهلة المتسمِّينَ بالإسلام إذا دهمتهم الشدائدُ وغشيتهم المحنُ والكروبُ تركوا دعاءَ الله، واستغاثوا بمن يعتقدون فيه الولايةَ والصلاحَ، وطلبوا منه العونَ والمددَ؛ فكانوا في ذلك أسوأَ من المشركين عبدةِ الأصنام، الذين كانوا عند حلول الحوادث العظام، والخطوب الجسام، يلجؤون إلى الله وحدَه، وينسَوْن آلهتَهم، طالبينَ النجاةَ كما قال -جل في علاه-: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 65].
أيها الإخوةُ: لقد جبَل اللهُ الذَّكَرَ والأنثى بخِلقة وطباع وخصائص، يتمايز بها كلٌّ منهما عن الآخَر، قال تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى)[آلِ عِمْرَانَ: 36]، وهذه خلقة الله لا تبديل لخلقته، وقد لَعَنَ رَسولُ اللَّهِ -ﷺ- المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال، لكِنْ عندما تنتكس الفطرةُ، فمن الشباب مَنْ يتنكَّر لطبيعته؛
فيتعمَّد مشابهة النساء: متأنثًا في ملبسه، متميعًا في كلامه، متغنِّجًا في ضحكه،
متكسِّرًا في مِشيته، وتلحَظ في هيئته ما لا يدلُّ على رجولته،
وقد يشتبه عليكَ أمرُه؛ أذَكَرٌ هو أم أنثى؛ ممَّا يبدو لكَ من مظهره،
وكذلك من الفتيات مَنْ تتنكَّر لطبيعتها، وتتخلَّى عن أنوثتها،
وتتمرَّد على فطرتها، فتتشبَّه بالرجال فيما يختصُّون به شرعًا أو عرفًا؛
من الكلام، أو الهيئة، أو اللباس، أو غير ذلك.
ومِنْ حكمةِ اللهِ البالغةِ أَنْ خلَق الزوجينِ الذكرَ والأنثى، وفطَر كلًّا منهما على الميل إلى الآخَر، والنكاحُ في الإسلام هو اقتران بين ذكَر وأنثى، وهو فطرة وحاجة إنسانية، يعطي لكلِّ واحدٍ من الزوجينِ حقَّ الاستمتاع بالآخَر على الوجه المشروع، لكِنْ عندما تنتكس الفطرةُ، فمن الشباب -مع استطاعته الزواج- فإنه يعزُف عنه؛ بحجة أنه ارتباط ومسؤولية وله تبعاتٌ، وكذلك مِنَ الفتيات مَنْ ترفض الزواجَ، ولا ترغب فيه معتقدةً أنه كبتٌ للحرية، وتحكُّمٌ في المرأة، وقد يعمَد مَنْ يختار العزوبةَ من الفتيان والفتيات -هداهم الله- إلى علاقات محرَّمة لإشباع نَهمتِهم وتحقيق مطمحهم، وعندما تنتكس الفطرةُ كذلك تُرتَكَب الكبائرُ، وتستساغ الرذائلُ والمناكرُ؛ كعمل قوم لوط والسِّحاق، وما يُعرَف بتبادُل الزوجات، وكذلك ما يُطلَق عليه زورًا وبهتانًا بزواج المثلِيِّينَ، وما هو بزواج، بل شذوذٌ، ومسخٌ للفطرة الإلهية السوية، وتغييرٌ للجِبِلَّة الإنسانية، ومخالفةٌ للغريزة التي وضعَها اللهُ في مخلوقاته، وهكذا فمتى ارتكَسَتْ فطرةُ المرء عاش حياةً هابطةً رخيصةً، لا يُبالي بما صار إليه حالُه من الخِسَّة، والانحطاط الخُلُقيّ.
وممَّا ابتليتُ به مجتمعاتُ المسلمين مؤخرًا، وكان من معاول هدم العلاقات الأسرية، والأواصر الاجتماعية، قيامُ بعض النساء -هداهن الله- بمخالَعة أزواجهم، لغير سبب شرعيّ، أو لأتفه الأسباب؛ بحجة أن تُصبِح المختلِعةُ حرةً غيرَ مقيدة، وقد يُسوِّل لها الشيطانُ بعد مخالعتها زوجَها إقامةَ علاقة محرَّمة مذمومة، تأثُّرًا بشبهات وأفكار مسمومة، تتجرَّع من جرَّائها الويلاتِ، وتجني من ورائها الحسراتِ.
والغَيرة -عباد الله- من طباع الفطرة الإنسانية السوية؛ فالرجل السويُّ يغار على أهله وعِرضه؛ فعندما بلغَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قولُ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ: "لو رَأَيْتُ رَجُلًا مع امْرَأَتي لَضَرَبْتُهُ بالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ عَنْهُ"، قالَ: "أَتَعْجَبُونَ مِن غَيْرَةِ سَعْدٍ، فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي..." الحديثَ، لكن عندما تنتكس الفطرةُ، يُضيِّع الرجلُ مسؤوليتَه، فلا ولايةَ ولا قوامةَ، ويُهمِل رعيتَه ولا يغار عليهم، بل يَرى المنكرَ في أهل بيته فلا يتمعَّر وجهُه، وقد جاء في الحديث: "ثَلَاثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْعَاقُّ، وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ".
إنَّ ممَّا فُطرت عليه النفسُ السويةُ، وجُبلت عليه الطباعُ المَرْضِيَّةُ الأنفةُ من الزنا واستهجانُ فعله؛ ولذلك لَمَّا سأل النبيُّ -ﷺ- ذلك الشابَّ الذي طلَب الإذنَ في الزنا قائلًا له: "أتحبُّه لأُمِّكَ؟ أتحبُّه لابنتِك؟ أتحبُّه لأختِك؟"،
كان الشاب يقولُ في كلّ واحدٍ: "لَا، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ"،
وهو -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يؤكِّد له أن الناس لا يُحِبُّونه، لا لقريب ولا لبعيد،
ولَمَّا بايَع النبيُّ -ﷺ- النساءَ، وأخَذ الميثاقَ عليهنَّ ألَّا يزنينَ،
قالت هندُ بنتُ عتبة: "يا رسول الله، أَوَتَزْنِي الحُرَّةُ؟!"؛ أَيْ: أيُعقَل أن تزني المرأةُ الحرةُ العفيفةُ، وهي تعلَم أنه فاحشةٌ ومنكرٌ وعارٌ، ولكن عندما تنتكس الفطرةَ ترى بعضَ النساء قد أضاعَتْ عفتَها، وباعَتْ عرضَها، ودنَّسَتْ شرفَها، فلا مراعاةَ لفضيلةٍ، ولا امتناعَ عن مقارفة الرذيلة.
عبادَ اللهِ: الحياءُ، والعفةُ، والمروءةُ، والشهامةُ، خصالٌ حميدةٌ، وسجايا كريمةٌ،
تتجاوب وتتناسَق مع الفطرة السليمة،
فهذا شاعر في الجاهلية قبل الإسلام يقول عن امرأة في عصره:
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ *** فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ
فحينَ سقَط خمارُها تناولَتْه، مغطيةً وجهَها بمعصميها، ولا غروَ؛ فالفطرة تدعو إلى حشمة المرأة وعفافها، والتستر وعدم التعري، لكِنْ عندما تنتكس الفطرة، فهناك من النساء من تنزع عنها ثوب الحياء، فلا تبالي بسفورها وتبرجها، وإبداء زينتها ومفاتنها أمام الرجال الأجانب،
وهذا شاعر جاهلي يصف حاله مِنْ غَضِّه طَرْفَه عن امرأة جارِه؛
تحشُّمًا واحترامًا لقَدْر الجار، وحفظًا لحقه، وحمايةً لعرضه، فيقول:
وَأَغُضُّ طَرْفِي إِنْ بَدَتْ لِي جَارَتِي *** حَتَّى يُوَارِي جَارَتِي مَثْوَاهَا
لكن عندما تنتكس الفطرة ينتهك المرءُ الحرماتِ؛ فيخون جارَه، ويعمَد إلى أذية نسائه والتحرش بهنَّ، وقد يرتكِب ما هو أشدُّ قبحًا، وأعظم جرمًا؛ فيزاني حليلةَ جاره، الذي عَدَّه النبيُّ -ﷺ- من أعظم الذنوب.
عبادَ اللهِ: والطهارة المعنوية والحسية متوافقةٌ مع الفطرة السليمة؛ فطهارة اللسان وجَمال المنطق مَنقَبةٌ فاضلةٌ، والبذاءةُ والسفاهةُ من الأخلاق السافلة، التي تنبو عنها النفوسُ الكريمةُ، ويأبى التخلقَ بها أصحابُ الفِطَرِ السليمةِ،
قال ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ"، لكِنْ عندما تنتكس الفطرةُ فلا يُستحيا من قبيح الكلام وفاحشه، بل تُصبح البذاءةُ والسفاهةُ مقبولةً مستساغةً، يَسهُل انتشارُها وجريانُها على الألسنة بلا نكيرٍ، والإنسانُ مجبولٌ على حُبِّ النظافةِ والجَمالِ، والنفور من النجاسة والأقذار، وقد حثَّ الإسلامُ على سُنَنِ الفطرةِ التي تعتني بنظافة الإنسان باطنًا وظاهرًا،
قال ﷺ: "الفطرَةُ خمسٌ: الختانُ، وحَلْقُ العانةِ، ونَتْفُ الإبطِ، وتقليمُ الأظافرِ، وحلقُ الشَّارب"، لكِنْ عندما تنتكس الفطرةُ يعارِض سلوكُ المرء طبيعتَها؛ فتظهر مساوئُ مخالَفَتِها، فقد يقع بعضُهم في مخالفة عدم تقليم أظفاره، وتركها تطول حتى يتخلَّلها العفنُ والأوساخُ، مع ما فيه من القُبح والتوحُّش، وقد يُزيَّن له أن ذلك من الزينة والجَمال.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ)[الرُّومِ: 43].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة،
أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ورضي به دِينًا عن سائر الأديان، وأرسل إلينا خير الأنام، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الْمَلِك العلَّام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، ومصطفاه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعدُ، فيا أيها المسلمون: الفطرةُ السويةُ عندما تسلَم من العوارض المؤثِّرة، تعرِف الحقَّ، وتتجه للخير، وتستقيم لربها، جاء في الحديث "أن النبي -ﷺ- ليلةَ أُسْرِيَ به، أُتِيَ بقَدَحَيْنِ: قَدَحِ لَبَنٍ، وقَدَحِ خَمرٍ، فنظَر إليهما، فأخَذ اللَّبَنَ، فقال جِبريلُ: الحَمدُ للهِ الذي هداكَ للفِطْرةِ، لو أخَذتَ الخَمرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ"،
قال النووي -رحمه الله-: "ومعناه -واللهُ أعلمُ- اخترتَ علامةَ الإسلام والاستقامة،
وجعَل اللبنَ علامة لكونه سهلًا طيبًا طاهرًا سائغًا، للشاربين، سليم العاقبة،
وأما الخمر فإنها أُمُّ الخبائث، وجالبةٌ لأنواع من الشر في الحال والمآل".
عبادَ اللهِ: وعلى قدر عمل الإنسان بهذا الدين والالتزام به والاستقامة عليه، تصحُّ الفطرةُ، وتُصرَف عنها المفسداتُ، وقد أدرَك أعداءُ الدينِ أن المجتمع المسلم فُطِرَ على أخلاق الإسلام، ولن ينحرف عن تعاليم الدين، ويسلك طريقَ الغواية إلا إذا تشوَّهت الفطرةُ في قلوب أبنائه، ومتى انحرفت السَّجِيَّة فلا واقٍ من انحراف السلوك، وسوء الأفعال، وفساد الأفكار.
معاشرَ المسلمينَ: ما أكثرَ الداعينَ إلى التمرد على الفطرة، ومن أولئك مَنْ يقوم بترويج ما يدعو إلى تبديل الفطرة وارتكاسِها، عبرَ وسائل التواصل الحديثة، وغيرها، فإذا أرَدْنا أن تستقيمَ حياتُنا، وننعَم بالسعادة فلا بدَّ أن نَثبُتَ على فطرتنا السوية، التي فطَرَنا اللهُ عليها، ونحذَر من انتكاستها، ونتمسَّكَ بهديِ ربِّنا ومنهجه القويم، ولا نُعرض عنه؛ فالإعراضُ عنه كفيلٌ بأن يُحِيلَ حياةَ الإنسان في دنياه وأخراه إلى شقاء وضيق وعذاب مستمرّ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124].
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد النبي الأُمِّيِّ، وعلى آل محمد، وارضَ اللهم عن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا منان.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودمِّرْ أعداءَكَ أعداءَ الدين، اللهم واحفظ بلاد الحرمين، من شر الأشرار، وأذية الفجار، وكيد الكائدين، ومكر الماكرين، ومن كل متربص وحاسد وحاقد، وعدو للإسلام والمسلمين.
اللهم واجعلها آمنةً مطمئنةً، رخاءً وسعةً، وسائر بلاد المسلمين، اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرا رشدا، يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويأمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والأدواء، والربا والزنا والزلازل، والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصةً، وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم كُنْ لإخواننا المستضعَفين والمجاهِدينَ في سبيلك، والمرابطينَ على الثغور، وحماة الحدود، اللهم كُنْ لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيِّدًا وظهيرًا، اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلِحِ الأئمةَ وولاةَ الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال،
يا حي يا قيوم، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم أحينا مسلمين،
وتوفنا مسلمين، غير مبدلين ولا مغيرين، وغير خزايا ولا مفتونين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ *
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصَّافَّاتِ: 180-182].