السليماني
مشرف المنتديات الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه
فمن أجلِّ وأجملِ نعوت المجتمع المسلم أن يتمتع أفراده بالمروءة والشهامة وإغاثة الملهوف، تلك السجايا التي تطرز النفوس بالخيرات وتُحوِّلُ الحياة إلى طعومٍ طيبةٍ، وتعزز معاني الوئام بين القلوب، وفي نور هذه المعاني الحسانِ يتفيأ المؤمنون ظلالها الوارف ويتنسمونَ طِيبَ عَرْفِهَا الشَّذِي ويتقاسمون أصدقَ صُوَرِ التدين الحقيقيِ النَّابعِ من أوامر القرآن الكريم والسنة المطهرة، وفي جماله يتنافسون:
وما المرءُ إِلاّ حيثُ يجْعَلُ نفْسَهُ ♦♦♦ فكُنْ طَالِباً في النَّاسِ أعْلَى المَرَاتِبِ
فهيا بنا إلى استرواحِ تلك المعاني الرائعةِ عندَ أهل الإنسانيةِ الحقَّةِ لنتذكر أن الشهامةَ والمُروءةَ يتلخصان في الحرص على الأعمال العظيمة لطيب الذكر عند الله تعالى والناس.
ولطالما تسامع الناس عن صنائع المعروف والتي تؤرخُ لكرام البشر الذين يبذلون المساعدة والعطاء بطلبٍ وبدون طلبٍ ويسابقون الزمان في التميز بخدمة الخلقِ وإغاثة الملهوفين، وهكذا كانوا جِدَّ مستجيبين لأمر الخلاق العليم حين قال عز وجلَّ: ﴿... وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج جزء الآية 77]،
وقال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة جزء الآية 237]،
وفي دائرة التعامل اليومي للمجتمع بين الأفراد تبدو إمارات الألفة بين الناس في قضاء المصالح وإجابة أهل الحاجات وفعل المروءات، ولا شك أن أعظمها وأبقاها ما كان متداولاً بين القلوب بطعم الإيمان،
قال النبي الكريم ﷺ: (المؤمن يألفُ ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس) (الألباني في السلسلة الصحيحة 426 عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقال: إسناده حسنٌ)،
وقال النبي الكريم ﷺ: (إنَّ للهِ عبادًا خلقَهم لحوائجِ الناسِ يفزعُ الناسُ إليهم في حوائجِهم أولئك الآمِنونَ يومَ القيامةِ) (السفاريني الحنبلي في شرح كتاب الشهاب 216 وقال: صحيحٌ لغيره، ورواه الألباني في ضعيف الجامع 1949 بألفاظٍ متقاربة وقال: ضعيفٌ، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما).
وعلى العكس من ذلك، فمن وُكلت إليه أمانةٌ فأصابه الضَّجَرُ وتأفَّفَ من وجوه الخلق إليه بطلب الحوائج وأنكرَ فضل الله عليه بتركِ صُنْعِ المعْروفِ لمن طلَبَهُ فإن ذلك إيذانٌ بزوالِ النِّعَمِ،
قال النبي الكريم ﷺ: (ما من عبدٍ أنعمَ اللهُ عليه نعمَةً فأسْبَغَها عليه ثم جعل من حوائِجِ الناسِ إليه فتَبَرَّمَ فقَدْ عرَّضَ تلْكَ النعمةَ للزوالِ) (الهيتمي في مجمع الزوائد 8 /195 وقال: إسناده جيدٌ عن عبد الله بن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما).
القدوة الأولى في صنائع المعروف:
والقدوة الأولى في ميدان المروءة وصنائع المعروف وإغاثة الملهوف هو سيدنا محمد ﷺ، شهدت بذلك أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها بعد أن أخبرها النبي الكريم ﷺ بما حدث له في الغار وقال لها: (... لقد خشيتُ على نفسي. فقالت خديجةُ: كلا واللهِ ما يخزيك اللهُ أبدًا، إنك لتصلُ الرحِمَ، وتحملُ الكلَّ، وتكسبُ المعدومَ، وتُقري الضيفَ، وتعينُ على نوائب الحقِّ) (صحيح البخاري 6307 عن عائشة رضي الله تعالى عنها)،
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان النبيُّ ﷺ أحسنَ الناسِ وأجودَ الناسِ وأشجعَ الناسِ، ولقد فَزِعَ أهلُ المدينةِ ذات ليلةٍ فانطلق الناسُ قبلَ الصوتِ فاستقبلهم النبيُّ ﷺ قد سبق الناسَ إلى الصوتِ وهو يقولُ: لم تُراعوا لم تُراعوا "لا تخافوا" وهو على فرسٍ لأبي طلحةَ عُرِيٍّ ما عليه سَرْجٌ، في عُنُقِه سيفٌ فقال: لقد وجدتُه بحرًا أو إنه لبحرٌ "يقصد الفرسَ في سرعته") (صحيح البخاري 6033)،
وهكذا نرى أن النبي الكريم ﷺ لم يتأخر عن نجدة الناس في وقت الفزع والخوف بل كان أسرعهم على فرس عريٍّ إلى موقع الحدث وعاد ليؤمِّنَهُم من فزعهم وخوفهم، وكذلك كان على الدوام؛ أقرب الناس إلى مظنات الأخطار ليحميَهم ويسدَّ عنهم الثغرات، قال عليٌّ بن أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (كنا إذا حَمِيَ البأسُ ولَقِيَ القومُ القومَ اتَّقَيْنَا برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فما يكونُ أحدٌ أقربَ إلى العدوِّ منهُ) (العراقي في تخريج الإحياء 2 /467 وقال: إسناده صحيحٌ)،
وهذا درسٌ من أعظم الدروس لكل قائدٍ أياً كان موقعه وفي أيٍّ مجال أن يبدأ بنفسه ليكون قدوةً في باب الشهامة والإقدام.
وقد أغاث النبي الكريم ﷺ عمرو بن سالم الخزاعي لما جاءه ملهوفاً يستغيث به أن قريشاً خانوا العهد ونقضوا الميثاق، وكان مما قال عمرو بن سالم:
(إِنَّ قُرَيْشًا أَخلَفُوكَ الْمَوعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثاقَكَ المُؤَكَّدَا
وَزَعَمُوا أَن لَّسْتُ أَدْعُو أَحَدَا
فَهُم أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا
قَد جَعَلوا لِي بِكَدَاءَ مَرْصَدَا
هُم بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا
فَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا
فقال رسولُ اللهِ ﷺ: نُصِرتَ يا عَمرو بنَ سالمٍ) (الزيلعي في تخريج الكشاف 2 /55 عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة، وقال: رُوِيَ مُرْسَلاً).
وكان ﷺ يبين لأصحابه أن إغاثة ذي الحاجة الملهوف من أكرم الأعمال وأجلِّ القربات وصدقة من الصدقات، فعن أبي ذرٍ رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: (ليس مِن نفسِ ابنِ آدَمَ إلَّا عليها صدقةٌ في كلِّ يومٍ طلَعَت فيه الشَّمسُ، قيل: يا رسولَ اللهِ ومِن أينَ لنا صدقةٌ نتصدَّقُ بها؟ فقال: إنَّ أبوابَ الخيرِ لكثيرةٌ: التَّسبيحُ والتَّحميدُ والتَّكبيرُ والتَّهليلُ والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عنِ المنكَرِ وتُميطُ الأذى عن الطَّريقِ وتُسمِعُ الأصَمَّ وتَهدي الأعمى وتدُلُّ المستدِلَّ على حاجتِه وتسعى بشدَّةِ ساقَيْكَ مع اللَّهفانِ المستغيثِ وتحمِلُ بشدَّةِ ذراعَيْكَ مع الضَّعيفِ فهذا كلُّه صدقةٌ منك على نفسِك) (صحيح ابن حبان 3377)
، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: (من نفَّسَ عن مسلمٍ كُربةً مِن كُربِ الدُّنيا نفَّسَ اللَّهُ عنهُ كربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومن يسَّرَ على مُعسرٍ في الدُّنيا يسَّرَ اللَّهُ عليهِ في الدُّنيا والآخرةِ، ومن سَترَ على مُسلمٍ في الدُّنيا سترَ اللَّهُ علَيهِ في الدُّنيا والآخرةِ، واللَّهُ في عونِ العَبدِ، ما كانَ العَبدُ في عونِ أخيهِ) (الألباني في صحيح الترمذي 1930 وقال: حديثٌ صحيحٌ)
، وجعل النبي الكريم صلى الله عليه إغاثة الملهوف من حق الطريق، فعن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه قال: (مرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مجلسِ الأنصارِ فقال: إنْ أبَيْتُم إلَّا أنْ تجلِسوا فاهدوا السَّبيلَ ورُدُّوا السَّلامَ وأغيثوا الملهوفَ) (صحيح ابن حبان 597).
ومن مواقف أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه النابضة بالشهامة والمروءة ما رواه أسلم مولى عمر قال: (خرَجْتُ مع عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه إلى السُّوقِ، فلَحِقَتْ عمرَ امرأةٌ شابةٌ، فقالت: يا أميرَ المؤمنين، هلكَ زوجي وتركَ صِبْيَةً صِغارًا، والله ما يَنْضِجون كُراعًا، ولا لهم زرعٌ ولا ضَرْعٌ، وخَشِيتُ أن تأكلَهم الضَبْعُ، وأنا بنتُ خَفافِ بنِ إيماءَ الغِفارِيِّ، وقد شَهِدَ أبي مع النبيِّ ﷺ، فوَقَفَ عمرُ ولم يَمْضِ،
ثم قال: مرحبًا بنَسَبٍ قريبٍ.
ثم انصرَفَ إلى بَعِيرٍ ظَهِيرٍ كان مربوطًا في الدارِ، فحَمَلَ عليه غَرارتَيْنِ ملأَهما طعامًا، وحَمَل بينهما نَفَقَةً وثيابًا، ثم ناولَها بخِطَامِه، ثم قال : اقْتَادِيه، فلن يَفْنَىَ حتى يأتيَكم اللهُ بخيرٍ،
فقال رجلٌ: يا أميرَ المؤمنين، أكثرْتَ لها؟ قال عمرُ: ثَكِلَتْك أمُّك!
واللهِ إني لأرى أبا هذه وأخاها، قد حاصرَا حِصْنًا زمانًا فافتَتَحَاه، ثم أصبحنا نَسْتَفِيءُ سُهْمَانَهما فيه)
(صحيح البخاري 4160) .
[وعن عبد الله بن الحسن بن الحسين رضي الله تعالى عنهم قال: أتيت باب عمر بن عبد العزيز في حاجة،
فقال: إذا كانت لك حاجة إليَّ فأرسل إليَّ رسولاً أو اكتب لي كتاباً، فإني لأستحي من الله أن يراك ببابي.
وعن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أنه قال: والذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحدٍ أودع قلباً سروراً إلا خلق الله تعالى من ذلك السرور لطفاً، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الإبل.
وقال لجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: يا جابر؛ من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فإن قام بما يجب لله فيها عرضها للدوام والبقاء، وإن لم يقم فيها بما يجب لله عرضها للزوال]
(شهاب الدين محمد بن أحمد الإبشيهي / المستطرف في كل فنٍ مستطرف ص 195 / ط1 / 2014م دار ابن الجوزي - القاهرة).
مروءة الصِّدِّيقِ يوسفَ والكليمِ موسى:
وما أكرم وأنبل موقف سيدنا يوسف الصدِّيقِ عليه السلام الذي سارع بتأويل منامِ الملكِ وبلا أجرةٍ ولم يساوم في حريته من السجن وهو المظلوم منذ بضع سنين، وكان رده فورياً للعبد الذي وفد من الملكِ يسألهُ بقوله:
﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ [يوسف 46 :49].
لقد كان تأويل الصدِّيق يوسف عليه السلام كطوق النجاة للبلاد والعباد، ويعد من باب إغاثة الملهوف في باب التعبير والرؤيا، ويُدْهَشُ الملك من التأويل ويطلب يوسف عليه السلام لكنه أبى أن يخرج من باب العفو الملكي وطلب تحقيقاً جديداً في قصة امرأة العزيز ونسوة الوزراء، قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف:50]،
ولهذا قال النبي الكريم ﷺ قوله: (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: "رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" (البقرة جزء الآية 260)، ويرحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديدٍ، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي) (صحيح البخاري 3192 عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه).
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه
فمن أجلِّ وأجملِ نعوت المجتمع المسلم أن يتمتع أفراده بالمروءة والشهامة وإغاثة الملهوف، تلك السجايا التي تطرز النفوس بالخيرات وتُحوِّلُ الحياة إلى طعومٍ طيبةٍ، وتعزز معاني الوئام بين القلوب، وفي نور هذه المعاني الحسانِ يتفيأ المؤمنون ظلالها الوارف ويتنسمونَ طِيبَ عَرْفِهَا الشَّذِي ويتقاسمون أصدقَ صُوَرِ التدين الحقيقيِ النَّابعِ من أوامر القرآن الكريم والسنة المطهرة، وفي جماله يتنافسون:
وما المرءُ إِلاّ حيثُ يجْعَلُ نفْسَهُ ♦♦♦ فكُنْ طَالِباً في النَّاسِ أعْلَى المَرَاتِبِ
فهيا بنا إلى استرواحِ تلك المعاني الرائعةِ عندَ أهل الإنسانيةِ الحقَّةِ لنتذكر أن الشهامةَ والمُروءةَ يتلخصان في الحرص على الأعمال العظيمة لطيب الذكر عند الله تعالى والناس.
ولطالما تسامع الناس عن صنائع المعروف والتي تؤرخُ لكرام البشر الذين يبذلون المساعدة والعطاء بطلبٍ وبدون طلبٍ ويسابقون الزمان في التميز بخدمة الخلقِ وإغاثة الملهوفين، وهكذا كانوا جِدَّ مستجيبين لأمر الخلاق العليم حين قال عز وجلَّ: ﴿... وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج جزء الآية 77]،
وقال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة جزء الآية 237]،
وفي دائرة التعامل اليومي للمجتمع بين الأفراد تبدو إمارات الألفة بين الناس في قضاء المصالح وإجابة أهل الحاجات وفعل المروءات، ولا شك أن أعظمها وأبقاها ما كان متداولاً بين القلوب بطعم الإيمان،
قال النبي الكريم ﷺ: (المؤمن يألفُ ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس) (الألباني في السلسلة الصحيحة 426 عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقال: إسناده حسنٌ)،
وقال النبي الكريم ﷺ: (إنَّ للهِ عبادًا خلقَهم لحوائجِ الناسِ يفزعُ الناسُ إليهم في حوائجِهم أولئك الآمِنونَ يومَ القيامةِ) (السفاريني الحنبلي في شرح كتاب الشهاب 216 وقال: صحيحٌ لغيره، ورواه الألباني في ضعيف الجامع 1949 بألفاظٍ متقاربة وقال: ضعيفٌ، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما).
وعلى العكس من ذلك، فمن وُكلت إليه أمانةٌ فأصابه الضَّجَرُ وتأفَّفَ من وجوه الخلق إليه بطلب الحوائج وأنكرَ فضل الله عليه بتركِ صُنْعِ المعْروفِ لمن طلَبَهُ فإن ذلك إيذانٌ بزوالِ النِّعَمِ،
قال النبي الكريم ﷺ: (ما من عبدٍ أنعمَ اللهُ عليه نعمَةً فأسْبَغَها عليه ثم جعل من حوائِجِ الناسِ إليه فتَبَرَّمَ فقَدْ عرَّضَ تلْكَ النعمةَ للزوالِ) (الهيتمي في مجمع الزوائد 8 /195 وقال: إسناده جيدٌ عن عبد الله بن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما).
القدوة الأولى في صنائع المعروف:
والقدوة الأولى في ميدان المروءة وصنائع المعروف وإغاثة الملهوف هو سيدنا محمد ﷺ، شهدت بذلك أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها بعد أن أخبرها النبي الكريم ﷺ بما حدث له في الغار وقال لها: (... لقد خشيتُ على نفسي. فقالت خديجةُ: كلا واللهِ ما يخزيك اللهُ أبدًا، إنك لتصلُ الرحِمَ، وتحملُ الكلَّ، وتكسبُ المعدومَ، وتُقري الضيفَ، وتعينُ على نوائب الحقِّ) (صحيح البخاري 6307 عن عائشة رضي الله تعالى عنها)،
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان النبيُّ ﷺ أحسنَ الناسِ وأجودَ الناسِ وأشجعَ الناسِ، ولقد فَزِعَ أهلُ المدينةِ ذات ليلةٍ فانطلق الناسُ قبلَ الصوتِ فاستقبلهم النبيُّ ﷺ قد سبق الناسَ إلى الصوتِ وهو يقولُ: لم تُراعوا لم تُراعوا "لا تخافوا" وهو على فرسٍ لأبي طلحةَ عُرِيٍّ ما عليه سَرْجٌ، في عُنُقِه سيفٌ فقال: لقد وجدتُه بحرًا أو إنه لبحرٌ "يقصد الفرسَ في سرعته") (صحيح البخاري 6033)،
وهكذا نرى أن النبي الكريم ﷺ لم يتأخر عن نجدة الناس في وقت الفزع والخوف بل كان أسرعهم على فرس عريٍّ إلى موقع الحدث وعاد ليؤمِّنَهُم من فزعهم وخوفهم، وكذلك كان على الدوام؛ أقرب الناس إلى مظنات الأخطار ليحميَهم ويسدَّ عنهم الثغرات، قال عليٌّ بن أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (كنا إذا حَمِيَ البأسُ ولَقِيَ القومُ القومَ اتَّقَيْنَا برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فما يكونُ أحدٌ أقربَ إلى العدوِّ منهُ) (العراقي في تخريج الإحياء 2 /467 وقال: إسناده صحيحٌ)،
وهذا درسٌ من أعظم الدروس لكل قائدٍ أياً كان موقعه وفي أيٍّ مجال أن يبدأ بنفسه ليكون قدوةً في باب الشهامة والإقدام.
وقد أغاث النبي الكريم ﷺ عمرو بن سالم الخزاعي لما جاءه ملهوفاً يستغيث به أن قريشاً خانوا العهد ونقضوا الميثاق، وكان مما قال عمرو بن سالم:
(إِنَّ قُرَيْشًا أَخلَفُوكَ الْمَوعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثاقَكَ المُؤَكَّدَا
وَزَعَمُوا أَن لَّسْتُ أَدْعُو أَحَدَا
فَهُم أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا
قَد جَعَلوا لِي بِكَدَاءَ مَرْصَدَا
هُم بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا
فَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا
فقال رسولُ اللهِ ﷺ: نُصِرتَ يا عَمرو بنَ سالمٍ) (الزيلعي في تخريج الكشاف 2 /55 عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة، وقال: رُوِيَ مُرْسَلاً).
وكان ﷺ يبين لأصحابه أن إغاثة ذي الحاجة الملهوف من أكرم الأعمال وأجلِّ القربات وصدقة من الصدقات، فعن أبي ذرٍ رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: (ليس مِن نفسِ ابنِ آدَمَ إلَّا عليها صدقةٌ في كلِّ يومٍ طلَعَت فيه الشَّمسُ، قيل: يا رسولَ اللهِ ومِن أينَ لنا صدقةٌ نتصدَّقُ بها؟ فقال: إنَّ أبوابَ الخيرِ لكثيرةٌ: التَّسبيحُ والتَّحميدُ والتَّكبيرُ والتَّهليلُ والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عنِ المنكَرِ وتُميطُ الأذى عن الطَّريقِ وتُسمِعُ الأصَمَّ وتَهدي الأعمى وتدُلُّ المستدِلَّ على حاجتِه وتسعى بشدَّةِ ساقَيْكَ مع اللَّهفانِ المستغيثِ وتحمِلُ بشدَّةِ ذراعَيْكَ مع الضَّعيفِ فهذا كلُّه صدقةٌ منك على نفسِك) (صحيح ابن حبان 3377)
، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: (من نفَّسَ عن مسلمٍ كُربةً مِن كُربِ الدُّنيا نفَّسَ اللَّهُ عنهُ كربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومن يسَّرَ على مُعسرٍ في الدُّنيا يسَّرَ اللَّهُ عليهِ في الدُّنيا والآخرةِ، ومن سَترَ على مُسلمٍ في الدُّنيا سترَ اللَّهُ علَيهِ في الدُّنيا والآخرةِ، واللَّهُ في عونِ العَبدِ، ما كانَ العَبدُ في عونِ أخيهِ) (الألباني في صحيح الترمذي 1930 وقال: حديثٌ صحيحٌ)
، وجعل النبي الكريم صلى الله عليه إغاثة الملهوف من حق الطريق، فعن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه قال: (مرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مجلسِ الأنصارِ فقال: إنْ أبَيْتُم إلَّا أنْ تجلِسوا فاهدوا السَّبيلَ ورُدُّوا السَّلامَ وأغيثوا الملهوفَ) (صحيح ابن حبان 597).
ومن مواقف أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه النابضة بالشهامة والمروءة ما رواه أسلم مولى عمر قال: (خرَجْتُ مع عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه إلى السُّوقِ، فلَحِقَتْ عمرَ امرأةٌ شابةٌ، فقالت: يا أميرَ المؤمنين، هلكَ زوجي وتركَ صِبْيَةً صِغارًا، والله ما يَنْضِجون كُراعًا، ولا لهم زرعٌ ولا ضَرْعٌ، وخَشِيتُ أن تأكلَهم الضَبْعُ، وأنا بنتُ خَفافِ بنِ إيماءَ الغِفارِيِّ، وقد شَهِدَ أبي مع النبيِّ ﷺ، فوَقَفَ عمرُ ولم يَمْضِ،
ثم قال: مرحبًا بنَسَبٍ قريبٍ.
ثم انصرَفَ إلى بَعِيرٍ ظَهِيرٍ كان مربوطًا في الدارِ، فحَمَلَ عليه غَرارتَيْنِ ملأَهما طعامًا، وحَمَل بينهما نَفَقَةً وثيابًا، ثم ناولَها بخِطَامِه، ثم قال : اقْتَادِيه، فلن يَفْنَىَ حتى يأتيَكم اللهُ بخيرٍ،
فقال رجلٌ: يا أميرَ المؤمنين، أكثرْتَ لها؟ قال عمرُ: ثَكِلَتْك أمُّك!
واللهِ إني لأرى أبا هذه وأخاها، قد حاصرَا حِصْنًا زمانًا فافتَتَحَاه، ثم أصبحنا نَسْتَفِيءُ سُهْمَانَهما فيه)
(صحيح البخاري 4160) .
[وعن عبد الله بن الحسن بن الحسين رضي الله تعالى عنهم قال: أتيت باب عمر بن عبد العزيز في حاجة،
فقال: إذا كانت لك حاجة إليَّ فأرسل إليَّ رسولاً أو اكتب لي كتاباً، فإني لأستحي من الله أن يراك ببابي.
وعن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أنه قال: والذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحدٍ أودع قلباً سروراً إلا خلق الله تعالى من ذلك السرور لطفاً، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الإبل.
وقال لجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: يا جابر؛ من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فإن قام بما يجب لله فيها عرضها للدوام والبقاء، وإن لم يقم فيها بما يجب لله عرضها للزوال]
(شهاب الدين محمد بن أحمد الإبشيهي / المستطرف في كل فنٍ مستطرف ص 195 / ط1 / 2014م دار ابن الجوزي - القاهرة).
مروءة الصِّدِّيقِ يوسفَ والكليمِ موسى:
وما أكرم وأنبل موقف سيدنا يوسف الصدِّيقِ عليه السلام الذي سارع بتأويل منامِ الملكِ وبلا أجرةٍ ولم يساوم في حريته من السجن وهو المظلوم منذ بضع سنين، وكان رده فورياً للعبد الذي وفد من الملكِ يسألهُ بقوله:
﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ [يوسف 46 :49].
لقد كان تأويل الصدِّيق يوسف عليه السلام كطوق النجاة للبلاد والعباد، ويعد من باب إغاثة الملهوف في باب التعبير والرؤيا، ويُدْهَشُ الملك من التأويل ويطلب يوسف عليه السلام لكنه أبى أن يخرج من باب العفو الملكي وطلب تحقيقاً جديداً في قصة امرأة العزيز ونسوة الوزراء، قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف:50]،
ولهذا قال النبي الكريم ﷺ قوله: (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: "رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" (البقرة جزء الآية 260)، ويرحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديدٍ، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي) (صحيح البخاري 3192 عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه).