من فضلك قم بتحديث الصفحة لمشاهدة المحتوى المخفي
الماضي
شيءٌ نحنُّ إليه، نتوق للعيش في جسده المخضَّب والمخصب بالحناء، نكتحلُ به كإثمد في عينَي زرقاء اليمامة، نخلقه خلقًا كاملاً في خيال مزروع بالوهم، ونصدق حين ننتهي من صناعةِ الظلال حولَه بأنه أسمرُ كلَوْنِ وطنٍ متألِّقٍ بالنماء، أبيضُ كثلجٍ في مَنفى يكشف عن قدمٍ وساقٍ وعين، أخضرُ كلون الزيتون المخضل بندًى يكادُ يطير نحو سماء لا تظللها زرقة، أو يلفُّها ضباب، أو تسكنها غيوم.
هو انبجاس الحلم في عمق الأمنيات، وتوقعُ النضارة في غُصنٍ يابس مشقَّق هجرَتْه الرياح والنُّسيمات، وتحولت عنه قطراتُ الهمي، وهو الشوقُ المطارد للاشتياق، كأنثى حملتْ رغباتها في الوصول إلى الجمال من ذروته دون المرور ببدايته أو منتصفه، أو كشهيقِ أمٍّ توَّجَت ناصيتها بنظرةٍ أخيرة لجثة ابنها المغسول بالدم من أجل وطن، تلك الأم التي تتشكلُ بأعماقِها فرحةُ الشهادة المختلطة بحسرةِ الوداع الأخير، ودمعة متدحرجة محشوَّة بالفرح والأسى، باندفاعِ الحبور المغلَّف بشذى الشجن، وكأن كل ذلك ملحمة الأسطورة في اكتمال الاستواء والتَّناسق والاتِّساق في التناقض والتضارب، ليبدو كوهج ذهبٍ مصقولٍ بِمَاسٍ مصقول بالرجاء والتمني.
هو وجع يبعث رجفة، تكادُ من فَرط عذوبتها أن تعلِّق الروحَ في منطقة الغرغرة، كسعادةٍ تعصف في الأحاسيس والمشاعر، وجع يؤسِّس فينا اقتباس الدهشة من الوجع، يسحبنا نحو الحنين، والحنين مرضٌ لا أعراض له ولا دلالات أو أسباب، يأتي خِلسة، يروغ كثعلب، يأخذنا إلى قصوره المحملة بنقوش الذهول، والمرصَّعة بقبول الخيال كواقع من حقيقةٍ تتمكن منا لتغرسَ فينا بيوضًا وأجِنةً، تتناسل وتتوالد، من خيال مولود من وهم، نراه شجرةَ ورد لامعة فوَّاحة، تلمَع في عتمة مطبقة وكأنها خليَّة نورٍ نابتة من غابةٍ تَعِجُّ بالضياء.
نحبه ونعشقه، كمريض أدمن العذاب على يدِ جلادٍ، فأتقن انتقاءَ العِلل ليتعلق بالعذاب، إلى حد التوحُّد والهيام، وبرع في الذوبان في عشق الجلاَّد، إلى درجة تأطيره كمخلص من المشاقِّ والصعوبات والألم، نغذيه دائمًا من حاضرنا ومستقبلنا، نمنحه الوقتَ الذي كان علينا أن نحياه من الحاضر والمستقبل، ونُنقي أعمارنا، عن طيب خاطر نابع من غباء طلي، برَّاق، وكأننا لا نشعر بعمرنا إلا حين نتخلَّى عنه طوعًا وإغراقًا، في حساباتٍ تصلح للصحراء، لكنها لا تصلح للبساتين المحملة بروائح الليمون والبرتقال.
هو ألم يغذِّي الألم، وانهيار يزود انهيارًا، ونوبةُ جنونٍ تسيطر على الوَعْي والإدراك، فتحولها إلى نثار فحم متفحِّم متحوِّل إلى رماد، هو الحياة التي تركناها بكل ما فيها من لوعةٍ وحسرة وخيبة وهزائم وانكسارات، لكننا نصفيه، عن ضعفٍ وجنونٍ، من كلِّ ذلك؛ لنحوله إلى حياة نتوق لجعلِها حاضرًا وما يليه.
بيننا وبينه علاقة معقَّدة، كحياة المحيطات والغابات، الكل يعيش فيهما حياةَ المفترس والفريسة، ربَّما يصطدمُ الحظُّ مع قليل من الحظِّ، لتجتاز الفريسة لحظة افتراسها من مفترِس آخرَ، لتبقى مُفترسة إلى حينٍ غير معلوم، مع فارق الماضي عن كل شيء، فهو مُفترس مكتمل النضوج والشراسة وعدم الرحمة، بملامس من حريرٍ طبيعيٍّ ناعم، يثير اللذَّة إلى حدِّ الشَّبَق والذروة، قاتل بغير قَتل، ومدمر بدون ترك أثر، يملك أدوات القتل والفتك والافتراس القادمة من جميع الأسلحة التي تتوزَّع بين الماء واليابسة والأجواء.
لكننا، ورغم رؤيتنا الخارقة لكل ذلك، نغيِّب الرُّؤى عن سابق تصميمٍ من حيِّز الإدراك والذاكرة، لنراه ونرى كل أسلحته كيَمامةٍ وحمام، كطوق من ياسِمِين يلف ذاته على نُسيمات مغادرة لتَخضَوضر دواخلنا وترتعش وتنتعش، بحالةٍ من عشق وهيام لخديعةٍ تأسرنا، وننساق إلى أَسْرها بحُبُور مطلق، وكأننا قُطعانٌ تلتفُّ حول حزن النَّاي في سهول الرعاة.
الماضي، سجن ترك لنا حريَّة اختيار بِنائه من أساساته، ترك لنا خيار اختيار فنِّه المعماري، رحابته واتساعه، بساتينه وجداوله وبيّاراته وكرومه، ترك لنا خيارًا مطلقًا بكل ما يحمل المطلق من معنًى، لتطعيمه وترصيعه بكل ما في الخيال من ثروات ونوادر تكاد تُعَدُّ على الأصابع، فكان فيه جزءٌ عظيم من أنفسنا، من ذواتنا، من طموحاتنا الكَسيحة، ومستقبلنا المشلول والمسلول.
عشناه، عشقناه، ذُبْنا حنينًا له وفيه؛ لأنه انقضَى، تكشَّفَت أسراره، وانفضحَت خفاياه، أصبح معرًّى، منزوعَ العُذْرية، لا يملك سرًّا يستتر خلفه أو فيه؛ لذلك تحولنا انتقائيين عاجزين، فلا نرى فيه سوى ما نريد أن نرى، من رغبة جامحة تملكنا ولا نملكها، لتحولنا إلى ركون لما يتم انتقاؤه، ليشكل صورة لا نقص فيها ولا اعوجاج، فهو ملجأنا من الحاضر، ومهربُنا من المستقبل، فالحاضر قاتل بما فيه من إرهاصات تقود إلى امتصاص الحلم، والمستقبلُ غامض يُخفي ما نخشى ونرهب، وبين هذا وذاك نقع نحن العاجزين عن التخلُّص من وباء الحلم والأمنيات التي تتشكَّل فينا، ولا نستطيع مقاومتَها أو ملاحقتها ومتابعتها، أو حتى تحويلها إلى واقع يتعامل معها بقانون احتمالاتِ الممكن وغير الممكن.
هو وباء، يسيطر على كلِّ ما فينا، يمضغنا ويلوكنا، يتسرَّب فينا تسرُّب المياه في الطبيعة، يتمكن منَّا، يرهقنا؛ فنورق، يَصْلِينَا؛ فنحمل الظلَّ، يشوينا؛ فينفجر غِناء من ملاحم وأساطير، ينتشر بكل مفاصلنا، نشعر بقوة الأُقحوان والحنون، لا ينفك يدمينا، ولا ننفكُّ عن البحث عنه في كل قاصيةٍ ودانية.
هو هو، منذ بدء الخلق وحتى تقوم الساعةُ، نحن أَسْراه وعبيدُه، منذ بدء الخلق وحتى تقوم الساعة.
فهنيئًا له بسيادته، وهنيئًا لنا بأَسْرِنا وعبوديَّتِنا.
مأمون أحمد مصطفى
17/2/2015 ميلادي - 29/4/1436 هجري