صلاة الخوف
مشروعية صلاة الخوف:
صلاة الخوف ثابتة بكتاب الله يقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً..} [النساء: 102].
وأما السنة: فقد ثبت وصح أنه ﷺ صلى صلاة الخوف في أربعة مواضع: في غزوة ذات الرقاع التي حدثت بعد الخندق على الصواب، وبطن نخل (اسم موضع في نجد بأرض غطفان) وعُسْفان (يبعد عن مكة نحو مرحلتين)، وذي قَرَد (ماء على بريد من المدينة، وتعرف بغزوة الغابة، في ربيع الأول سنة ست قبل الحديبية) وصلاها النبي ﷺ أربعاً وعشرين مرة. وقد وردت بها الأحاديث الآتية في صفة صلاتها، مع خبر "صلوا كما رأيتموني أصلي".
وأجمع الصحابة على فعلها، وصلاها علي وأبو موسى الأشعري وحذيفة.
شروط صلاة الخوف:
- أن يكون القتال مباحاً: أي مأذوناً فيه، سواء أكان واجباً كقتال الكفار الحربيين، والبغاة، والمحاربين (قطاع الطرق) القاصدين سفك الدماء وهتك الحرمات، لقوله تعالى:
{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، أم جائزاً كقتال من أراد أخذ مال المسلمين.
فلا تصح صلاة الخوف من البغاة والعاصي بسفره، لأنها رحمة وتخفيف ورخصة، فلا يجوز أن تتعلق أو تباح بالمعاصي، أي أن صلاة الخوف لا تجوز في القتال المحظور أو حرام كقتال أهل العدل وقتال أصحاب الأموال لأخذ أموالهم.
- حضور العدو أو السبع، أو خوف الغرق أو الحَرَق: فمن خاف العدو أو الخطر، سواء أكان الخوف على النفس أم المال، جاز له صلاة الخوف عند الجمهور والمشهور من مذهب المالكية في السفر والحضر وفي البحر والبر، في القتال أو غيره. فلو رأوا سواداً ظنوه عدواً، فصلوها، فإن تبين الأمر كما ظنوا صحت صلاتهم، وإن ظهر خلافه، لم تجز، فإذا كانت الصلاة من غير خوف فسدت، قال الشافعية والحنابلة: من أمن وهو في الصلاة أتمها صلاة آمن، ومن كان آمناً فاشتد خوفه أتمها صلاة خائف. وقال المالكية: من أمن صلى صلاة أمان. وتكون في صلاة الحضر تامة، وصلاة السفر الرباعية مقصورة، لأن الخوف لا يؤثر في عدد الركعات، ففي السفر الذي يبيح القصر (89 كم) يصلي الإمام بكل طائفة ركعة، وفي الحضر يصلي الإمام بكل طائفة ركعتين.
كيفية صلاة الخوف
اتفق الفقهاء على ناحيتين مهمتين: أولاهما - أنه يجوز لأفراد الجيش أن يصلوا بإمامين، كل طائفة بإمام. وثانيتهما - أنه في اشتداد الخوف وتعذر الجماعة، يجوز للجنود أن يصلوا فرادى ركباناً وراجلين، في مواقعهم وخنادقهم، يومئون إيماء بالركوع والسجود إلى أي جهة شاءوا، إلى القبلة وإلى غيرها، يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا، أو إلى غيرها، لأن هذه صلاة للضرورة، تسقط بها الأركان والتوجه إلى القبلة.
وأما صلاة الخوف جماعة لكل الجنود، بإمام واحد: فتجوز صلاتها على أي صفة صلاها رسول الله ﷺ، وقد جاءت الأخبار بأنها على ستة عشر نوعاً، في صحيح مسلم بعضها، ومعظمها في سنن أبي داود، وفي صحيح ابن حبان منها تسعة، ففي كل مرة كان ﷺ يفعل ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة.
والمشهور من ذلك سبع صفات، اختار الجمهور منها أقواها وأصحها لديهم، وأجازها كلها الحنابلة واختار الإمام أحمد منها حديث سهل، وهي ما يأتي:
صلاة النبي ﷺ في عسفان (روى هذه الصفة أبو داود): وقد اعتمدها الشافعية والحنابلة إذا كان العدو في جهة القبلة: وهي أن يصف الإمام الناس خلفه صفين فأكثر، ويصلي بهم جميعاً ركعة إلى أن يسجد، فإذا سجد سجد معه الصف الذي يليه، وحرس الصف الآخر حتى يقوم الإمام إلى الركعة الثانية، فإذا قام سجد الصف المتخلف، ولحقوه.
وفي الركعة الثانية سجد معه الصف الذي حرس أولاً في الركعة الأولى، وحرس الصف الآخر. فإذا جلس الإمام للتشهد سجد من حرس، وتشهد بالصفين وسلم بهم جميعاً. فهي صلاة مقصورة لكونها في السفر. وقد اشترط الحنابلة لهذه الصفة: ألا يخاف المسلمون كميناً يأتي من خلف المسلمين، وألا يخفى بعض الكفار عن المسلمين، وأن يكون في المصلين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين، كل طائفة ثلاثة فأكثر، لأن الله تعالى ذكر الطائفة بلفظ الجمع {فإذا سجدوا ...} وأقل الجمع ثلاثة. فإن خاف المسلمون كميناً (يكمن في الحرب)، أو خفي بعضهم عن المسلمين، أو كان المسلمون أقل من ستة أشخاص، صلوا على غير هذا الوجه.
صلاة النبي ﷺ في غزوة ذات الرقاع (روى هذه الصفة البخاري ومسلم): وهي التي اختارها الشافعية والحنابلة إذا كان العدو في غير جهة القبلة، كما اختارها المالكية مطلقاً في مشهور المذهب، سواء أكان العدو في جهة القبلة أم لا. وهي أن يقسم الإمام العسكر طائفتين: طائفة معه، وأخرى تحرس العدو، فيصلي بأذان وإقامة بالطائفة الأولى التي معه في الصلاة الثنائية ركعة، وفي الثلاثية والرباعية ركعتين، ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون، ثم يذهبون ويحرسون.
وتأتي الطائفة الثانية، فيقتدون، ويصلي بهم الإمام الركعة الثانية في الثنائية، والركعتين الأخريين في الرباعية، والثالثة في المغرب، ويسلم الإمام، ويتمون صلاتهم بفاتحة وسورة، ولكن بعد سلامه عند المالكية، وينتظر الإمام في التشهد عند الشافعية والحنابلة ثم يسلم بهم، كما هو نص الحديث، ويقرأ الإمام بعد قيامه للركعة الثانية الفاتحة وسورة بعدها في زمن انتظاره الفرقة الثانية، ويكرر التشهد أو يطيل الدعاء فيه. ولا يسلم قبلهم عند الشافعية والحنابلة لقوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} فيدل على أن صلاتهم كلها معه، وتحصل المعادلة بين الفرقتين، فإن الأولى أدركت مع الإمام فضيلة الإحرام، والثانية فضيلة السلام.
صلاة النبي ﷺ كما رواها ابن عمر (روى هذا الصفة البخاري ومسلم)، وهي التي اختارها الحنفية: أن يجعل الإمام الناس طائفتين: طائفة في وجه العدو، وطائفة خلفه، فيصلي بهذه الطائفة ركعة وسجدتين وتتمم صلاتها عند الجمهور بقراءة سورة الفاتحة وتسلم وتذهب للحراسة. وقال الحنفية: ثم تمضي إلى وجه العدو للحراسة بدون إتمام الصلاة.
وتأتي الطائفة الأخرى، فيصلي بهم الإمام ركعة وسجدتين، ويتشهد ويسلم وحده لتمام صلاته، ولم يسلموا عند الحنفية لأنهم مسبوقون، وإنما يذهبون مشاة للحراسة في وجه العدو. وتتمم هذه الطائفة صلاتها عند الجمهور بقراءة سورة مع الفاتحة ثم تعود لمواقعها. وقال الحنفية: ثم تجيء الطائفة الأولى إلى مكانها الأول، أو تصلي في مكانها تقليلاً للمشي، فتتمم صلاتها وحدها بغير قراءة عند الحنفية، لأنهم في حكم اللاحقين، وتشهدوا وسلموا، وعادوا لحراسة العدو.
ثم تأتي الطائفة الثانية، فتتمم صلاتها بقراءة سورة مع الفاتحة، لأنهم لم يدخلوا مع الإمام في أول الصلاة، فاعتبروا في حكم السابقين.
كيفية أداء الصلوات الخمس حال الإقامة:
فإن كان الإمام مقيماً صلى بالطائفة الأولى ركعتين من الرباعية، وبالطائفة الثانية ركعتين تسوية بينهما. ويصلي - في المذاهب الأربعة - بالطائفة الأولى ركعتين من المغرب، وبالثانية ركعة، لأنه إذا لم يكن بدّ من التفضيل فالأولى أحق به، وما فات الثانية ينجبر بإدراكها السلام مع الإمام. ويصلي الصبح بكل طائفة ركعة.
صلاة النبي ﷺ في بطن نخل (مكان من نجد بأرض غطفان) (روى هذه الصفة البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، واعتمدها الشافعية بعد صلاة ذات الرقاع إذا كان العدو في غير جهة القبلة: وهي أن يصلي الإمام مرتين صلاة كاملة، بكل طائفة مرة، ويسلم بكل طائفة. وصفتها حسنة قليلة الكلفة لا تحتاج إلى مفارقة الإمام ولا إلى تعريف كيفية الصلاة، وليس فيها أكثر من أن الإمام في الصلاة الثانية متنفل يؤم مفترضين، وهو جائز اتفاقاً، وعند الحنابلة والحنفية جائز في صلاة الخوف فقط، ممنوع في غيرها.
صلاة النبي ﷺ في ذات الرقاع كما رواها جابر (روى هذه الصفة البخاري ومسلم وأحمد): وهي أن يصلي الإمام الصلاة الرباعية تامة أربعاً بالنسبة إليه، وتصلي معه كل طائفة صلاة مقصورة ركعتين، بلا قضاء للركعتين، فكان للإمام أربع تامة، وللقوم ركعتان مقصورة.
صلاة النبي ﷺ بذي قَرَد (ماء على بريد: 22176 م من المدينة) (روى هذه الصفة أبو داود والنسائي)، ومنعها أكثر الفقهاء، وأجازها الإمام أحمد والمحدثون لصحة الأحاديث فيها: وهي أن يصف الإمام الناس صفين: صفاً خلفه، وصفاً موازياً للعدو، ويصلي الرباعية الجائز قصرها بكل طائفة ركعة فقط، بلا قضاء ركعة أخرى.
صلاته ﷺ بأصحابه عام غزوة نجد، رواها أبو داود والنسائي: وهي أن تقوم مع الإمام طائفة، وتبقى طائفة أخرى تجاه العدو، وظهرها إلى القبلة، ثم يحرم وتحرم معه الطائفتان، وتصلي معه إحدى الطائفتين ركعة، ثم يذهبون فيقومون في وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الأخرى، فتصلي لنفسها ركعة، والإمام قائم، ثم يصلي بهم الركعة التي بقيت معه. ثم تأتي الطائفة القائمة في وجه العدو، فيصلون لأنفسهم ركعة، والإمام قاعد، ثم يسلم الإمام ويسلمون جميعاً، أي أن ابتداء الصلاة وانتهاءها تم باشتراك الطائفتين مع الإمام.
حمل السلاح في أثناء الصلاة:
يسن للمصلي عند الشافعية والحنابلة في صلاة شدة الخوف حمل السلاح في أثناء الصلاة احتياطاً، ليدفع به العدو عن نفسه، لقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} وقوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} فدل على الجناح (الإثم) عند عدم ذلك، لكن لا يحمل في الصلاة سلاحاً نجساً، ولا ما يتأذى به الناس من الرمح في وسط الناس.
سهو الإمام في صلاة الخوف:
قال المالكية والشافعية والحنابلة: إذا فرق الإمام العسكر فرقتين كما حدث في صلاة ذات الرقاع أو صلاة عسفان، فسهو الإمام في الركعة الأولى يلحق الجميع، فيسجد المفارقون للسهو عند تمام صلاتهم، لأن نفس صلاة الإمام نقص في صلاتهم، إلا أن المالكية قالوا: تسجد الفرقة الأولى السجود القبلي قبل السلام، والبعدي بعده، وتسجد الفرقة الثانية السجود القبلي مع الإمام، وتسجد السجود البعدي بعد قضاء ما عليها.
أما بعد المفارقة في الركعة الثانية: فلا يلحق سهو الإمام الأولين: لمفارقتهم الإمام قبل السهو.
وتسجد الفرقة الثانية مع الإمام آخر صلاته، ويلحقهم سهوه في حال انتظارهم.
أما سهو كل فرقة في الركعة الأولى للفرقة الأولى، وفي الركعة الثانية للفرقة الثانية، فيتحمله الإمام، لاقتداء الفرقة الأولى بالإمام حقيقة في الركعة الأولى واقتداء الفرقة الثانية حكماً في الركعة الثانية.
بطلان صلاة الخوف
ذهب الحنفية إلى أنه: تفسد صلاة الخوف بمشي لغير اصطفاف، وسبق حدث، وركوب مطلقاً أي لاصطفاف أو غيره، لأن الركوب عمل كثير، وهو مما لا يحتاج إليه، بخلاف المشي، فإنه أمر لابد منه، حتى يصطفوا بإزاء العدو.
كما تفسد بقتال كثير، لا بقليل كرَمْية سهم، فلا يقاتل المصلون حال الصلاة لعدم الضرورة إليه، فإذا فعلوا ذلك، وكان كثيراً، بطلت صلاتهم لمنافاته للصلاة من غير ضرورة إليه، بخلاف المشي، فإنه ضروري لأجل الاصطفاف.
قال الشافعية: لا يجوز الصياح ولا غيره من الكلام بلا خلاف، فإن صاح فبان منه حرفان، بطلت صلاته بلا خلاف، لأنه ليس محتاجاً إليه، بخلاف المشي وغيره.
ولا تضر الأفعال اليسيرة بلا خلاف، لأنها لا تضر في غير الخوف ففيه أولى.
وأما الأفعال الكثيرة: فإن لم تتعلق بالقتال، بطلت الصلاة بلا خلاف. وإن تعلقت به كالطعنات والضربات المتوالية، فإن لم يحتج إليها أبطلت بلا خلاف أيضاً، لأنها عبث.
وإن احتاج إليها فالأصح عند الأكثرين: أن الصلاة لا تبطل، قياساً على المشي، ولأن مدار القتال على الضرب، ولا يحصل المقصود غالباً بضربة وضربتين، ولا يمكن التفريق بين الضربات.
الصلاة عند التحام القتال واشتداد الخوف:
اتفق الفقهاء على أنه ليس للصلاة كيفية معينة عند اشتداد الخوف من العدو، ويصلي العسكر إيماء. وعبارات الفقهاء في ذلك ما يأتي:
ذهب الحنفية إلى أنه إذا: إن اشتد خوف العسكر بحيث لا يدعهم العدو يصلون وعجزوا عن النزول، صلوا ركباناً فرادى، لأنه لا يصح الاقتداء لاختلاف المكان بين الإمام والمأمومين، ويومئون بالركوع والسجود إلى أي جهة شاءوا، إذا لم يقدروا على التوجه إلى القبلة، لقوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً}، وسقط التوجه للقبلة للضرورة، كما سقطت أركان الصلاة.
والسابح في البحر: إن أمكنه أن يرسل أعضاءه ساعة صلى بالإيماء، وإلا لا تصح صلاته، كصلاة الماشي والسائف، وهو يضرب بالسيف، فلا يصلي أحد حال المسايفة.
وذهب المالكية إلى أنه: تجوز الصلاة عند اشتداد الخوف، وفي حال المسايفة أو مناشبة الحرب، في آخر الوقت المختار، إيماء بالركوع والسجود إن لم يمكنا، ويخفض للسجود أكثر من الركوع، فرادى (وُحداناً)، بقدر الطاقة، مشاة وركباناً، وقوفاً أو ركضاً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
فيحل للمصلي صلاة الالتحام للضرورة مشي وهرولة وجري وركض، وضرب وطعن للعدو، وكلام من تحذير وإغراء، وأمر ونهي، وعدم توجه للقبلة، ومسك سلاح ملطخ بالدم. فإن أمنوا في صلاة الالتحام أتموا صلاة أمن بركوع وسجود.
وذهب الشافعية إلى أنه: إذا التحم القتال أو اشتد الخوف يصلي كل واحد كيف أمكن راكباً وماشياً، وأومأ للركوع والسجود، إن عجز عنهما، والسجود أخفض. ويعذر في ترك القبلة، وكذا الأعمال الكثيرة لحاجة في الأصح ولا يعذر في الصياح بل تبطل به الصلاة، ويُلقي السلاح إذا دُمي دماً لا يعفى عنه، حذراً من بطلان الصلاة، فإن احتاج إلى إمساكه بأن لم يكن له منه بد، أمسكه للحاجة. ولا قضاء للصلاة حينئذ في الأظهر.
وله أن يصلي هذه الصلاة (أي شدة الخوف) حضراً وسفراً، في كل قتال وهزيمة مباحين وهرب من حريق وسيل وسبع وغريم عند الإعسار، وخوف حبسه.
وذهب الحنابلة إلى أنه: إذا كان الخوف شديداً، وهم في حال المسايفة، صلوا رجالاً وركباناً، إلى القبلة وإلى غيرها، يومئون إيماء بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم كالمريض، يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا أو إلى غيرها. ويتقدمون ويتأخرون، ويضربون ويطعنون، ويكرون ويفرون، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها.
ويصح أن يصلوا في حال شدة الخوف جماعة، بل تجب، رجالاً وركباناً، بشرط إمكان المتابعة، فإن لم تمكن لم تجب الجماعة ولا تنعقد.
ولا يضر تأخر الإمام عن المأموم في شدة الخوف، للحاجة إليه.
ولا يضر تلويث سلاحه بدم ولو كان كثيراً، وتبطل الصلاة بالصياح والكلام لعدم الحاجة إليه.
وتجوز هذه الصلاة لمن هرب من عدوه هرباً مباحاً كخوف قتل أو أسر محرَّم بأن يكون الكفار أكثر من مثلي المسلمين، أو هرب من سيل أو سبع ونحوه، كنار أو غريم ظالم، أو خاف على نفسه أو أهله أو ماله من شيء مما سبق.
الجنائز
التعريف:
الجنائز جمع جنازة بالفتح: الميت، وبالكسر: السرير الذي يوضع عليه الميت.
أولاً: أحكام المحتضر:
تعريف المحتضر وتوجيهه وتلقينه:
المحتضر هو من حضر الموت وملائكته، والمراد من قرب موته، علامة الاحتضار -كما أوردها ابن عابدين- أن تسترخي قدماه فلا تنتصبان، ويعوج أنفه، وينخسف صدغاه، ويمتد جلد خصيتيه لانشمار الخصيتين بالموت،وتمتد جلدة وجهه فلا يرى فيها تعطف.
ما ينبغي فعله بعد الموت، وما لا ينبغي فعله:
ما ينبغي فعله بعد الموت:
اتفق الفقهاء على أنه إذا مات الميت شُدَّ لِحياه، وغمضت عيناه، فإن النبي ﷺ دخل على أبي سلمة، وقد شق بصره فأغمضه وقال: "إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر" [أخرجه مسلم].
الإعلام بالموت:
يستحب أن يعلم جيران الميت وأصدقاؤه حتى يؤدوا حقه بالصلاة عليه والدعاء له، روى سعيد بن منصور عن النخعي: لا بأس إذا مات الرجل أن يؤذن صديقه وأصحابه.
وكره بعض الحنفية النداء في الأسواق قال في النهاية: إن كان عالماً، أو زاهداً، أو ممن يتبرك به، فقد استحسن بعض المتأخرين النداء في الأسواق لجنازته وهو الأصح، ولكن لا يكون على هيئة التفخيم، وينبغي أن يكون بنحو، مات الفقير إلى الله تعالى فلان ابن فلان.
وقال المالكية: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات:
الأولى: إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة.
والثانية: الدعوة للمفاخرة بالكثرة فهذا مكروه.
والثالثة: الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا محرم.
قضاء الدين:
يستحب أن يسارع إلى قضاء دينه أو إبرائه منه، وبه قال أحمد لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً "نفس المؤمن معلقة بِدَينه حتى يقضى عنه" [أخرجه الإمام أحمد].
وقال الحنابلة: إن تعذر الوفاء استحب لوارثه أو غيره أن يتكفل عنه، والكفالة بدين الميت قال بصحتها أكثر الأئمة.
تجهيز الميت:
اتفق الفقهاء على أنه إن تيقن الموت يبادر إلى التجهيز ولا يؤخر لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله" [أخرجه داود].
مالا ينبغي فعله بعد الموت:
قراءة القرآن عند الميت:
تكره عند الحنفية قراءة القرآن عند الميت حتى يغسل.
وعند المالكية يكره قراءة شيء من القرآن مطلقاً.
وذهب الشافعية إلى أنه لا يقرأ عند الميت قبل الدفن لئلا تشغلهم القراءة عن تعجيل تجهيزه، أما بعد الدفن فيندب عندهم.
النوح والصياح على الميت:
يكره النوح، والصياح، وشق الجيوب، في منزل الميت، وفي الجنائز، أو في محل آخر للنهي عنه، ولا بأس بالبكاء بدمع قال الحنفية: والصبر أفضل.
فقد روى الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله ﷺ بريء من الصالقة والحالقة والشّاقة(1) [متفق عليه].
___________________
(1) والصالقة: هي التي ترفع صوتها بالبكاء. والحالقة هي التي تحلق رأسها عند المصيبة والشاقة هي التي تشق ثوبها عند المصيبة.
شق بطن الميتة لإخراج الجنين:
ذهب الحنفية وبعض الشافعية، إلى أنه إن ماتت امرأة والولد يضطرب في بطنها يشق بطنها ويخرج الولد، ومذهب الشافعية وهو المتجه عند الحنابلة، أنه يشق للولد إن كان ترجى حياته. فإن كان لا ترجى حياته فالأصح أنه لا يشق.
وقال المالكية: لا يشق بطن المرأة عن جنين ولو رجي حياته على المعتمد، ولكن لا تدفن حتى يتحقق موته ولو تغيرت.
واتفقوا على أنه إن أمكن إخراجه بحيلة غير الشق وجب.
غسل الميت:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن تغسيل الميت فرض كفاية بحيث إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
تكفين الميت:
اتفق الفقهاء على أن تكفين الميت بما يستره فرض على الكفاية.
حمل الجنازة:
حكم الحمل وكيفيته:
أجمع الفقهاء على أن حمل الجنازة فرض على الكفاية، ويجوز الاستئجار على حمل الجنازة.
تشييع الجنازة:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن تشييع الرجال للجنازة سنة، لحديث البراء بن عازب: أمرنا رسول الله ﷺ باتباع الجنائز. والأمر هنا للندب لا للوجوب وهذا بإجماع الفقهاء.
وقال المالكية: اتباع الجنازة من الواجبات على الكفاية.
لما روي أن رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة.
وروي عن الصحابة كلا الأمرين وقد قال علي: إن فضل الماشي خلفها على الذي يمشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ.
وقال الثوري: كل ذلك في الفضل سواء.
وأما النساء فلا ينبغي لهن عند الحنفية أن يخرجن في الجنازة، فيكره خروجهن تحريماً.
وأما عند الشافعية فقال النووي: مذهب أصحابنا أنه مكروه، وليس بحرام.
وأما المالكية: جاز خروج متجالَّةٍ (كبيرة السن) لجنازة مطلقاً، وكذا شابة لا تخشى فتنتها، ولجنازة من عظمت مصيبته عليها، كأب، وأم، وزوج، وابن، وبنت، وأخ، وأخت، أما من تخشى فتنتها فيحرم خروجها مطلقاً.
وقال الحنابلة: كره أن تتبع الجنازة امرأة.
ما ينبغي أن يفعل مع الجنازة وما لا ينبغي:
اتباع الجنازة بمبخرة أو نار:
اتفق الفقهاء على أن الجنازة لا تتبع بنار في مجمرة (مبخرة) ولا شمع، ولا تتبع الجنازة بصوت ولا نار، ويكره تجمير القبر.
الجلوس قبل وضع الجنازة:
يكره لمتبع الجنازة أن يجلس قبل وضعها للنهي عن ذلك. فعن أبي هريرة مرفوعاً: "من تبع جنازة فلا يقعدن حتى توضع"[متفق عليه].
القيام للجنازة:
مذهب الحنفية وأحمد لا يقوم للجنازة (إذا مرت به) إلا أن يريد أن يشهدها، وكذا إذا كان القوم في المصلى، وجيء بجنازة.
وقال الحنابلة: كره قيام لها (أي للجنازة) لو جاءت أو مرت به وهو جالس، كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ ترك القيام للجنازة، والأخذ بآخر الأمرين أولى.
وقال الشافعية: المشهور في مذهبنا أن القيام ليس مستحباً.
وقال بعض الشافعية إن القيام مستحب وهذا هو المختار والمعتمد فيكون الأمر به للندب، والقعود لبيان الجواز.
الصمت في اتباع الجنازة:
ينبغي لمن تبع الجنازة أن يطيل الصمت، ويكره رفع الصوت بالذكر وقراءة القرآن وغيرهما.
قال الحنفية: ولا ينبغي أن يرجع من يتبع جنازة حتى يصلي عليها، لأن الاتباع كان للصلاة عليها، فلا يرجع قبل حصول المقصود.
وبه قال المالكية وزادوا أن الانصراف قبل الصلاة يكره ولو أذن أهلها، وبعد الصلاة لا يكره إذا طولوا ولم يأذنوا.
وقال الشافعية أيضاً: يكون رفع الصوت بالذكر بدعة، قالوا: يكره اللغط في الجنازة.
الصلاة على الجنازة:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الصلاة على الجنازة فرض على الكفاية.
شروط صلاة الجنازة:
يشترط لصحة صلاة الجنازة ما يشترط لبقية الصلوات من الطهارة الحقيقية بدناً وثوباً ومكاناً، والحكمية، وستر العورة واستقبال القبلة، والنية، سوى الوقت.
وشرط الحنفية أيضاً ما يلي:
أولها: إسلام الميت لقوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة:84].
والثاني: طهارته من نجاسة حكمية وحقيقية في البدن، فلا تصح على من لم يغسل، ولا على من عليه نجاسة، وهذا الشرط عند الإمكان.
والثالث: تقديم الميت أمام القوم فلا تصح على ميت موضوع خلفهم.
والرابع: حضوره أو حضور أكثر بدنه أو نصفه مع رأسه.
والخامس: وضعه على الأرض أو على الأيدي قريباً منها.
والسادس: ستر عورته.
والسابع: محاذاة الإمام جزءاً من أجزاء الميت إذا كان الميت واحداً، وأما إذا كثر الموتى فيجعلهم صفاً ويقوم عند أفضلهم.
وأما سننها فتفصيلها كما يلي:
الأولى: قيام الإمام بحذاء صدر الميت ذكراً كان الميت أو أنثى سنة عند الحنفية.
وقال المالكية ليس لصلاة الجنازة سنن بل لها مستحبات، منها وقوف الإمام والمنفرد حذاء وسط الرجل، ومنكبي المرأة والخنثى.
وقال الشافعية: إنهما يقومان عند رأس الرجل، وعند عجز المرأة أو الخنثى.
وقال الحنابلة: عند صدر الرجل، ووسط الأنثى، وسن ذلك من خنثى.
الثانية: الثناء بعد التكبيرة الأولى سنة عند الحنفية وهو اختيار الحنابلة وهو: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك.
وقال المالكية: لا ثناء في التكبيرة الأولى، ولكن ابتداء الدعاء بحمد الله والصلاة على النبي ﷺ مندوب، أي بعد التكبيرة الثانية وقال الحنابلة أيضاً: لا يستفتح.
وجاء قراءة الفاتحة بقصد الثناء كذا نص عليه الحنفية، وقال علي القاري: يستحب قراءتها بنية الدعاء خروجاً من الخلاف.
الثالثة: ومن السنن عند الحنفية الصلاة على النبي ﷺ بعد التكبيرة الثانية بقوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد إلى آخره.
وقال المالكية: الصلاة على النبي ﷺ مندوبة عقب كل تكبيرة قبل الشروع في الدعاء.
الرابعة: من السنن عند الحنفية دعاء المصلي للميت ولنفسه (وإذا دعا لنفسه قدم نفسه على الميت لأن من سنة الدعاء أن يبدأ فيه بنفسه) ولجماعة المسلمين، وذلك بعد التكبيرة الثالثة، ولا يتعين للدعاء شيء سوى كونه بأمور الآخرة، ولكن إن دعا بالمأثور عن النبي ﷺ فهو أحسن وأبلغ لرجاء قبوله.
فمن المأثور ما حفظ عوف بن مالك من دعاء النبي ﷺ على جنازة "اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار" [أخرجه مسلم].
فإن كان الميت صغيراً فعن أبي حنيفة ينبغي أن يقول: اللهم اجعله لنا فرطا، واجعله لنا أجراً وذخراً، اللهم اجعله لنا شافعاً ومشفعاً.
وقال الحنابلة: إن كان صغيراً أو استمر مجنوناً قال: اللهم اجعله ذخراً لوالديه-الخ وظاهره الاقتصار عليه.
وصرح الشافعية بأن هذا الدعاء يكون بدل الدعاء المذكور للبالغين، وهو ظاهر كلام المالكية أيضاً، فكأن أقوال الأربعة اتفقت في الدعاء للصغير بهذه الصيغة.
الدعاء للميت:
الدعاء عند المالكية والحنابلة ركن، ولكن عند المالكية يدعو عقب كل تكبيرة حتى الرابعة، وفي قول آخر عندهم لا يجب بعد الرابعة كما تقدم، وأقل الدعاء أن يقول: اللهم اغفر ونحو ذلك.
وأحسنه أن يدعو بدعاء أبي هريرة وهو أن يقول: بعد حمد الله تعالى والصلاة على النبي ﷺ: اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده.
ويقول في المرأة: اللهم إنها أمتك وبنت عبدك وبنت أمتك، ويستمر في الدعاء المتقدم بصيغة التأنيث، ويقول في الطفل الذكر: اللهم إنه عبدك وابن عبدك أنت خلقته، وأنت أمتَّه وأنت تحييه، اللهم اجعله لوالديه سلفاً وذخراً، وفرضا وأجرا، وثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، ولا تفتنا وإياهما بعد، اللهم ألحقه بصالح سلف المؤمنين في كفالة إبراهيم.
ويزيد في الكبير: وأبدله دار خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله، وعافه من فتنة القبر وعذاب جهنم.
وليس لصلاة الجنازة عند المالكية سنن بل لها مستحبات، وهي: الإسرار بها، ورفع اليدين عند التكبيرة الأولى فقط، حتى يكونا حذو أذنيه، وابتداء الدعاء بحمد الله، والصلاة على النبي ﷺ، ووقوف الإمام عند وسط الرجل، وعند منكبي المرأة، وأما المأموم فيقف خلف الإمام كما يقف في غيرها من الصلاة، وجهر الإمام بالسلام والتكبير بحيث يسمع من خلفه، وأما غيره فيسر فيها.
وقال الشافعية: سنتها التعوذ قبل الفاتحة والتأمين، والإسرار بالقراءة والدعاء وسائر الأقوال فيها ولو فعلت ليلاً، عدا التكبير والسلام فيجهر بها، وفعل الصلاة في الجماعة، وأن يكونوا ثلاثة صفوف فأكثر إذا أمكن، وأقل الصف اثنان ولو بالإمام، ولا تكره مساواة المأموم للإمام في الوقوف حينئذ.
وقال الحنابلة: سننها فعلها في جماعة، وأن لا ينقص عدد كل صف عن ثلاثة إن كثر المصلون، وإن كانوا ستة جعلهم الإمام صفين، وإن كانوا أربعة جعل كل اثنين صفاً، ولا تصح صلاة من صلى خلف الصف وحده كغيرها من الصلاة، وأن يقف الإمام والمنفرد عند صدر الرجل ووسط الأنثى، وأن يسر بالقراءة والدعاء فيها وقد ذكروا التعوذ والتسمية قبل قراءة الفاتحة، ولم يطلع على تصريح لهم بسنيتها.
صفة صلاة الجنازة:
مذهب الحنفية أن الإمام يقوم في الصلاة على الجنازة بحذاء الصدر من الرجل والمرأة، وهذا أحسن مواقف الإمام من الميت للصلاة عليه، وإن وقف في غيره جاز.
وعند المالكية يندب أن يقف الإمام وسط الذكر وحذو منكبي غيره.
ومذهب الشافعية أن الإمام يقوم ندباً عند رأس الرجل، وعجيزة المرأة.
وقال الحنابلة: يقوم عند صدر رجل، وقيل عند رأسه، ووسط امرأة، وبين الصدر والوسط من الخنثى، لحديث أنس وفيه أنه صلى على امرأة فقام وسط السرير.
ما يفعل المسبوق في صلاة الجنازة:
إذا جاء رجل وقد كبر الإمام التكبيرة الأولى ولم يكن حاضراً انتظره حتى إذا كبر الثانية كبر معه، فإذا فرغ الإمام كبر المسبوق التكبيرة التي فاتته قبل أن ترفع الجنازة، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وقال المالكية: إذا جاء والإمام مشتغل بالدعاء فإنه يجب عليه أن لا يكبر حتى إذا كبر الإمام كبر معه، فإن لم ينتظر وكبر صحت صلاته ولكن لا تحتسب تكبيرته هذه، سواء انتظر أو لم ينتظر، وإذا سلم الإمام قضى المأموم ما فاته من التكبير سواء رفعت الجنازة فوراً أو بقيت، إلا أنه إذا بقيت الجنازة دعا عقب كل تكبيرة يقضيها، وإن رفعت فوراً وإلى التكبير ولا يدعو لئلا يكون مصلياً على غائب والصلاة على الغائب غير مشروعة عندهم.
وقال الشافعية: إذا جاء المأموم وقد فرغ الإمام من التكبيرة الأولى أو غيرها، واشتغل بما بعدها من قراءة أو غيرها، فإنه يدخل معه ولا ينتظر الإمام حتى يكبر التكبيرة التالية، إلا أنه يسير في صلاته على نظم الصلاة لو كان منفرداً، فبعد أن يكبر التكبيرة الأولى يقرأ من الفاتحة ما يمكنه قراءته قبل تكبير الإمام ويسقط عنه الباقي، ثم يصلي على النبي ﷺ بعد الثانية وهكذا، فإذا فرغ الإمام أتم المأموم صلاته على النظم المذكورة، ويأتي بالأذكار في مواضعها، سواء بقيت الجنازة أو رفعت، وإذا لم يمكنه قراءة شيء من الفاتحة إن كبر إمامه عقب تكبير المسبوق للإحرام معه وتحمل الإمام عنه كل الفاتحة.
وقال الحنابلة: من سبق ببعض الصلاة كبر ودخل مع الإمام حيث أدركه ولو بين تكبيرتين ندباً كالصلاة، أو كان إدراكه له بعد تكبيرة الرابعة قبل السلام، فيكبر للإحرام معه ويقضي ثلاث تكبيرات استحباباً، ويقضي مسبوق ما فاته قبل دخوله مع الإمام على صفته، لأن القضاء يحكي الأداء كسائر الصلوات، ويكون قضاؤه بعد سلام الإمام كالمسبوق في الصلاة.
ترك بعض التكبيرات:
ولو سلم الإمام بعد الثالثة ناسياً كبر الرابعة ويسلم.
وقال الحنابلة: إن ترك غير مسبوق تكبيرة عمداً بطلت، وإن ترك سهواً فإن كان مأموماً كبرها ما لم يطل الفصل (أي بعد السلام)، وإن كان إماماً نبهه المأمومون فيكبرها ما لم يطل الفصل، وصحت صلاة الجميع، فإن طال أو وجد مناف استأنف، وصحت صلاة المأمومين إن نووا المفارقة.
وقال الشافعية: تبطل صلاة الجميع إن كان النقص قصداً من الإمام، وإن كان سهواً تداركه الإمام والمأموم كالصلاة، ولا سجود للسهو هنا.
وقال المالكية: إن كان النقص من الإمام عمداً بطلت صلاة الجميع، وإن سهواً سبح المأمومون، فإن رجع عن قرب وكمل التكبير كملوا معه وصحت صلاة الجميع، وإن لم يرجع أو لم ينتبه إلا بعد زمن طويل كملوا هم، وصحت صلاتهم وبطلت صلاته.
الصلاة على جنائز مجتمعة:
اتفق الفقهاء على أنه إذا اجتمعت جنائز يجوز أن يصلي عليهم مجتمعين أو فرادى ثم اختلفوا:
فقال الحنفية: فالإمام إن شاء صلى على كل واحدة على حدة، وإن شاء صلى على الكل دفعة واحدة بالنية على الجميع.
والمذهب عند الشافعية: أن الإفراد أفضل من أن يصلي عليهم دفعة واحدة لأنه أكثر عملاً وأرجى للقبول.
وقال الحنابلة: إذا اجتمعت جنائز فجمعهم في الصلاة عليهم أفضل من الصلاة على كل واحد منهم منفرداً، وذلك لأجل المحافظة على الإسراع والتخفيف.
وقال مالك: أرى ذلك واسعاً إن جعل بعضهم خلف بعض، أو جعلوا صفاً واحداً، ويقوم الإمام وسط ذلك ويصلي عليهم. وإن كانوا غلماناً ذكوراً أو نساء جعل الغلمان مما يلي الإمام والنساء من خلفهم مما يلي القبلة، وإن كن نساء صنع بهن كما يصنع بالرجال كل ذلك واسع بعضهم خلف بعض صفاً واحداً.
وإذا كبر الإمام على جنازة فجيء بأخرى مضى على صلاته على الأولى، فإذا فرغ استأنف على الثانية، وإن كان لما وضعوا الثانية كبر الأخرى ينويها فهي للأولى أيضاً، ولا يكون للثانية، وإن كبر الثانية ينوي الثانية وحدها فهي للثانية وقد خرج من الأولى، فإذا فرغ أعاد الصلاة على الأولى وهذا ما ذهب إليه الحنفية.
وقال الحنابلة: لو كبر فجيء بأخرى كبر ثانية ونواهما، فإن جيء بثالثة ونوى الجنائز الثلاث، فإن جيء برابعة كبر رابعة ونوى الكل، فيصير مكبراً على الأولى أربعاً وعلى الثانية ثلاثاً، وعلى الثالثة اثنتين، وعلى الرابعة واحدة، فيأتي بثلاث تكبيرات أخر، فيتم التكبيرات سبعاً، يقرأ في خامسة ويصلي (على النبي ﷺ) بسادسة، ويدعو بسابعة، فيصير مكبراً على الأولى سبعاً، وعلى الثانية ستاً، وعلى الثالثة خمساً، وعلى الرابعة أربعاً.
الحدث في صلاة الجنازة:
ذهب الحنفية إلى أنه إن كان الإمام على غير الطهارة تعاد الصلاة، وإن كان الإمام على طهارة والقوم على غير طهارة صحت صلاة الإمام ولا تعاد الصلاة عليه.
وقال الشافعية: لو صلى الإمام غير متوضىء ومن خلفه متوضئون أجزأت صلاتهم، وإن كانوا كلهم غير متوضئين أعادوا، وإن كان فيهم ثلاثة فصاعدا متوضئون أجزأت.
وقال مالك: إذا أحدث إمام الجنازة يأخذ بيد رجل فيقدمه فيكبر ما بقي على هذا الذي قدمه، ثم إن شاء رجع بعد أن يتوضأ فصلى ما أدرك وقضى ما فاته، وإن شاء ترك ذلك.
الصلاة على القبر:
لو دفن الميت قبل الصلاة أو قبل الغسل فإنه يصلى عليه وهو في قبره ما لم يعلم أنه تمزق، وهذا مذهب الحنفية.
وقال مالك: لا يصلى على القبر إن دفن قبل أن يصلى عليه، أخرج وصلي عليه ما لم يفت، فإن فات صلي عليه في قبره.
وعند الشافعية يجوز الصلاة على المقبور لكل من فاتته الصلاة عليه قبل دفنه.
وعند أحمد يجوز لمن فاتته الصلاة على الميت أن يصلي على قبره إلى شهر من دفنه وزيادة يسيرة كيومين ويحرم بعدها.
وحكي عن الأوزاعي تجويزه الصلاة على القبر ولم يحك عنه التحديد.
الصلاة على الجنازة في المسجد:
مذهب الحنفية أنه تجوز الصلاة عل الجنازة في الجبانة والأمكنة والدور وهي فيها سواء، ويكره في الشارع وأراضي الناس، وكذا تكره أي تكره كراهة تنزيه في المسجد الذي تقام فيه الجماعة سواء كان الميت والقوم في المسجد، أو كان الميت خارج المسجد والقوم في المسجد، أو الميت في المسجد، والإمام والقوم خارج المسجد، وهو المختار.
وقال مالك: أكره أن توضع الجنازة في المسجد، فإن وضعت قرب المسجد للصلاة عليها فلا بأس أن يصلي من في المسجد عليها بصلاة الإمام الذي يصلي عليها إذا ضاق خارج المسجد بأهله.
وقال الشافعية: تندب الصلاة على الميت في المسجد إذا أمن تلويثه، إما إذا خيف تلويث المسجد فلا يجوز إدخاله، وحجة جواز الصلاة على الجنازة في المسجد، لأنه ﷺ صلى فيه على سهل وسهيل ابني بيضاء كما رواه مسلم.
قال الشافعية: فالصلاة عليه لذلك، لأن المسجد أشرف.
وقال الحنابلة: تباح الصلاة على الجنازة في المسجد مع أمن تلويث، فإن لم يؤمن لم يجز.
الصلاة على الجنازة في المقبرة:
فيها للفقهاء قولان:
أحدهما: لا بأس بها، وهو مذهب الحنفية كما تقدم ورواية عن أحمد، لأن النبي ﷺ صلى على قبر، وهو في المقبرة.
والقول الثاني: يكره ذلك،لأنه ليس بموضع للصلاة غير صلاة الجنازة فكرهت فيه صلاة الجنازة كالحمام.
من يصلى عليه ومن لا يصلى عليه:
يرى الحنفية أنه يصلى على كل مسلم مات بعد الولادة صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، حراً كان أو عبداً، إلا البغاة وقطاع الطريق ومن بمثل حالهم.
وكره مالك لأهل الفضل الصلاة على أهل البدع.
وقال الحنابلة: حرم أن يعود أو يغسل مسلم صاحب بدعة مكفرة، أو يكفنه، أو يصلى عليه، أو يتبع جنازته.
ويرى الحنفية أن من قتل نفسه ولو عمداً يغسل ويصلى عليه، به يفتى وإن كان أعظم وزراً من قاتل غيره.يصلى عليه.
وقال مالك: يصلى على الذين كابروا (أي البغاة) ولا يصلي عليهم الإمام وقال: يصلى على قاتل نفسه ويصنع به ما يصنع بموتى المسلمين وإثمه على نفسه.
وقال الحنابلة: لا يسن للإمام الأعظم وإمام كل قرية وهو واليها في القضاء، الصلاة على غالّ وقاتل نفسه عمداً، وإن صلى عليهما فلا بأس به.
ويرى الحنفية أن من قتل أحد أبويه لا يصلى عليه إهانة.
وقال مالك: كل من قتله الإمام على قصاص، أو في حد من الحدود، فإن الإمام لا يصلي عليه والناس يصلون عليه وكذا المرجوم.
ولا يصلى على من لم يستهل بعد الولادة كما تقدم.
وإذا اختلط موتانا بكفار صلي عليهم مطلقاً في أوجه الأقوال.
أما الشافعية فلم يستثنوا من الصلاة على الميت إلا الكافر والمرتد.
من له ولاية الصلاة على الميت:
ذهب الحنفية إلى أن أولى الناس بالصلاة على الميت السلطان إن حضر ثم نائبه وهو أمير المصر، ثم القاضي، فإن لم يحضر فصاحب الشرط ثم خليفة الوالي، ثم خليفة القاضي، ثم إمام الحي.
وفي الصلاة على الميت أبوه، ثم ابنه، ثم ابن ابنه وإن سفل، ثم الجد وإن علا، ثم الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، وهكذا الأقرب فالأقرب كترتيبهم في النكاح.
وقال المالكية: الأحق بالصلاة عليه وصي الميت إن كان أوصى إليه رجاء بركته وإلا فلا، ثم الخليفة وهو الإمام الأعظم، وأما نائبه فلا حق له في التقدم إلا إذا كان نائبه في الحكم والخطبة، ثم أقرب العصبة فيقدم الابن، ثم ابنه ثم الأب، ثم الأخ، ثم ابن الأخ، ثم الجد، ثم العم، ثم ابن العم وهكذا.
وقال الشافعية: الأولى بالصلاة عليه أبو الميت وإن علا، ثم ابنه وإن سفل، ثم الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ لأب، ثم بقية العصبة على ترتيب الميراث، فإن لم يكن فالإمام الأعظم، أو نائبه عند انتظام بيت المال، ثم ذوو الأرحام الأقرب فالأقرب.
وقال الحنابلة: الأولى بالصلاة عليه إماماً وصية العدل، ثم السلطان، ثم نائبه، ثم أبو الميت وإن علا، ثم ابنه وإن نزل، ثم الأقرب فالأقرب على ترتيب الميراث، ثم ذوو الأرحام، ثم الزوج، ونائب الولي بمنزلته بخلاف نائب الوصي فلا يكون بمنزلته.
ما يفسد صلاة الجنازة وما يكره فيها:
تفسد صلاة الجنازة عند الحنفية بما تفسد به سائر الصلوات من الحدث العمد والكلام، والعمل الكثير وغيرها من مبطلات الصلاة،إلا المحاذاة فإنها غير مفسدة في هذه الصلاة، لأن فساد الصلاة بالمحاذاة عرف بالنص، والنص ورد في الصلاة المطلقة فلا يلحق بها غيرها، ولهذا لم يلحق بها سجدة التلاوة حتى لم تكن المحاذاة فيها مفسدة، وكذا القهقهة في هذه الصلاة لا تنقص الطهارة، لأن القهقهة مبطلة بالنص الوارد في صلاة مطلقة، فلا يجعل واردا في غيرها.
وتكره الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعند انتصاف النهار، لحديث عقبة بن عامر: ثلاث ساعات نهانا رسول الله ﷺ أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا.
والمراد بقبر الموتى الصلاة على الجنازة دون الدفن.
وإنما تكره الصلاة على الجنازة كراهة تحريم عند الحنفية إذا حضرت في هذه الأوقات في ظاهر الرواية، ولكن في "تحفة الفقهاء": الأفضل أن يصلي على جنازة حضرت في تلك الأوقات ولا يؤخرها، بل قال الزيلعي: إن التأخير مكروه لقول النبي ﷺ لعلي رضي الله عنه: "ثلاث لا تؤخرها، الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدتَ لها كفئا". [أخرجه الترمذي].
أما إذا حضرت قبل الوقت المكروه فأخرها حتى صلى في الوقت المكروه فإنها لا تصح وتجب إعادتها.
ولا يكره أن يصلي على الجنازة بعد صلاة الفجر، أو بعد صلاة العصر، وكذا بعد طلوع الفجر، وبعد الغروب قبل صلاة المغرب، ولكن يبدأ بعد الغروب بصلاة المغرب أولا، ثم بالجنازة ثم بالسنة.
وقال ابن المبارك: معنى هذا الحديث " أو أن نقبر فيها موتانا" يعني الصلاة على الجنازة، وكرهها ابن المبارك عند طلوع الشمس وعند غروبها، وإذا انتصف النهار حتى تزول الشمس (كما قال أبو حنيفة) وهو قول أحمد وإسحاق وهو قول مالك والأوزاعي وهو قول ابن عمر.
وقال الشافعية: إذا وقع الدفن في هذه الأوقات بلا تعمد فلا يكره.
والنهي عند الشافعي محمول على الصلوات التي لا سبب لها.
التعزية، والرثاء، وزيارة القبور ونحو ذلك:
إذا فرغوا من دفن الميت يستحب الجلوس (المكث) عند قبره بقدر ما ينحر جزور ويقسم لحمه، فقد روى مسلم عن عمرو بن العاص أنه قال: إذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي [أخرجه مسلم ]. يتلون القرآن ويدعون للميت.
التلقين:
والتلقين بعد الدفن لا يؤمر به وينهى عنه. وظاهر الرواية عند الحنفية يقتضي النهي عنه، وبه.
قالت المالكية فقد ذهبوا إلى أن التلقين بعد الدفن وحاله مكروه، وإنما يندب حال الاحتضار فقط.
واستحبه الشافعية فقالوا: والتلقين هنا أن يقول الملقن مخاطباً للميت: يا فلان بن فلانة، إن كان يعرف اسم أمه وإلا نسبه إلى حواء عليها السلام، ثم يقول بعد ذلك أذكر العهد الذي خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حق ،والنار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام دينا، وبمحمد ﷺ نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً.
وقال الحنابلة: استحب الأكثر تلقينه، فيقوم عند رأسه بعد تسوية التراب فيقول.
صنع الطعام لأهل الميت:
ذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى أنه يستحب لجيران الميت والأباعيد من قرابته تهيئة طعام لأهل الميت يشبعهم يومهم وليلتهم، لقوله ﷺ: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم" [أخرجه أبو داود والترمذي].
ويلح عليهم في الأكل، لأن الحزن يمنعهم فيضعفهم، وبه قالت المالكية.
وصول ثواب الأعمال للغير:
من صام أو صلى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء جاز، ويصل ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة، واستثنى مالك والشافعي العبادات البدنية المحضة، كالصلاة والتلاوة، فلا يصل ثوابها إلى الميت عندهما، ومقتضى تحرير المتأخرين من الشافعية انتفاع الميت بالقراءة لا حصول ثوابها له.
وقال بعض المالكية: إن القراءة تصل للميت وأنها عند القبر أحسن مزية.
مشروعية صلاة الخوف:
صلاة الخوف ثابتة بكتاب الله يقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً..} [النساء: 102].
وأما السنة: فقد ثبت وصح أنه ﷺ صلى صلاة الخوف في أربعة مواضع: في غزوة ذات الرقاع التي حدثت بعد الخندق على الصواب، وبطن نخل (اسم موضع في نجد بأرض غطفان) وعُسْفان (يبعد عن مكة نحو مرحلتين)، وذي قَرَد (ماء على بريد من المدينة، وتعرف بغزوة الغابة، في ربيع الأول سنة ست قبل الحديبية) وصلاها النبي ﷺ أربعاً وعشرين مرة. وقد وردت بها الأحاديث الآتية في صفة صلاتها، مع خبر "صلوا كما رأيتموني أصلي".
وأجمع الصحابة على فعلها، وصلاها علي وأبو موسى الأشعري وحذيفة.
شروط صلاة الخوف:
- أن يكون القتال مباحاً: أي مأذوناً فيه، سواء أكان واجباً كقتال الكفار الحربيين، والبغاة، والمحاربين (قطاع الطرق) القاصدين سفك الدماء وهتك الحرمات، لقوله تعالى:
{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، أم جائزاً كقتال من أراد أخذ مال المسلمين.
فلا تصح صلاة الخوف من البغاة والعاصي بسفره، لأنها رحمة وتخفيف ورخصة، فلا يجوز أن تتعلق أو تباح بالمعاصي، أي أن صلاة الخوف لا تجوز في القتال المحظور أو حرام كقتال أهل العدل وقتال أصحاب الأموال لأخذ أموالهم.
- حضور العدو أو السبع، أو خوف الغرق أو الحَرَق: فمن خاف العدو أو الخطر، سواء أكان الخوف على النفس أم المال، جاز له صلاة الخوف عند الجمهور والمشهور من مذهب المالكية في السفر والحضر وفي البحر والبر، في القتال أو غيره. فلو رأوا سواداً ظنوه عدواً، فصلوها، فإن تبين الأمر كما ظنوا صحت صلاتهم، وإن ظهر خلافه، لم تجز، فإذا كانت الصلاة من غير خوف فسدت، قال الشافعية والحنابلة: من أمن وهو في الصلاة أتمها صلاة آمن، ومن كان آمناً فاشتد خوفه أتمها صلاة خائف. وقال المالكية: من أمن صلى صلاة أمان. وتكون في صلاة الحضر تامة، وصلاة السفر الرباعية مقصورة، لأن الخوف لا يؤثر في عدد الركعات، ففي السفر الذي يبيح القصر (89 كم) يصلي الإمام بكل طائفة ركعة، وفي الحضر يصلي الإمام بكل طائفة ركعتين.
كيفية صلاة الخوف
اتفق الفقهاء على ناحيتين مهمتين: أولاهما - أنه يجوز لأفراد الجيش أن يصلوا بإمامين، كل طائفة بإمام. وثانيتهما - أنه في اشتداد الخوف وتعذر الجماعة، يجوز للجنود أن يصلوا فرادى ركباناً وراجلين، في مواقعهم وخنادقهم، يومئون إيماء بالركوع والسجود إلى أي جهة شاءوا، إلى القبلة وإلى غيرها، يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا، أو إلى غيرها، لأن هذه صلاة للضرورة، تسقط بها الأركان والتوجه إلى القبلة.
وأما صلاة الخوف جماعة لكل الجنود، بإمام واحد: فتجوز صلاتها على أي صفة صلاها رسول الله ﷺ، وقد جاءت الأخبار بأنها على ستة عشر نوعاً، في صحيح مسلم بعضها، ومعظمها في سنن أبي داود، وفي صحيح ابن حبان منها تسعة، ففي كل مرة كان ﷺ يفعل ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة.
والمشهور من ذلك سبع صفات، اختار الجمهور منها أقواها وأصحها لديهم، وأجازها كلها الحنابلة واختار الإمام أحمد منها حديث سهل، وهي ما يأتي:
صلاة النبي ﷺ في عسفان (روى هذه الصفة أبو داود): وقد اعتمدها الشافعية والحنابلة إذا كان العدو في جهة القبلة: وهي أن يصف الإمام الناس خلفه صفين فأكثر، ويصلي بهم جميعاً ركعة إلى أن يسجد، فإذا سجد سجد معه الصف الذي يليه، وحرس الصف الآخر حتى يقوم الإمام إلى الركعة الثانية، فإذا قام سجد الصف المتخلف، ولحقوه.
وفي الركعة الثانية سجد معه الصف الذي حرس أولاً في الركعة الأولى، وحرس الصف الآخر. فإذا جلس الإمام للتشهد سجد من حرس، وتشهد بالصفين وسلم بهم جميعاً. فهي صلاة مقصورة لكونها في السفر. وقد اشترط الحنابلة لهذه الصفة: ألا يخاف المسلمون كميناً يأتي من خلف المسلمين، وألا يخفى بعض الكفار عن المسلمين، وأن يكون في المصلين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين، كل طائفة ثلاثة فأكثر، لأن الله تعالى ذكر الطائفة بلفظ الجمع {فإذا سجدوا ...} وأقل الجمع ثلاثة. فإن خاف المسلمون كميناً (يكمن في الحرب)، أو خفي بعضهم عن المسلمين، أو كان المسلمون أقل من ستة أشخاص، صلوا على غير هذا الوجه.
صلاة النبي ﷺ في غزوة ذات الرقاع (روى هذه الصفة البخاري ومسلم): وهي التي اختارها الشافعية والحنابلة إذا كان العدو في غير جهة القبلة، كما اختارها المالكية مطلقاً في مشهور المذهب، سواء أكان العدو في جهة القبلة أم لا. وهي أن يقسم الإمام العسكر طائفتين: طائفة معه، وأخرى تحرس العدو، فيصلي بأذان وإقامة بالطائفة الأولى التي معه في الصلاة الثنائية ركعة، وفي الثلاثية والرباعية ركعتين، ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون، ثم يذهبون ويحرسون.
وتأتي الطائفة الثانية، فيقتدون، ويصلي بهم الإمام الركعة الثانية في الثنائية، والركعتين الأخريين في الرباعية، والثالثة في المغرب، ويسلم الإمام، ويتمون صلاتهم بفاتحة وسورة، ولكن بعد سلامه عند المالكية، وينتظر الإمام في التشهد عند الشافعية والحنابلة ثم يسلم بهم، كما هو نص الحديث، ويقرأ الإمام بعد قيامه للركعة الثانية الفاتحة وسورة بعدها في زمن انتظاره الفرقة الثانية، ويكرر التشهد أو يطيل الدعاء فيه. ولا يسلم قبلهم عند الشافعية والحنابلة لقوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} فيدل على أن صلاتهم كلها معه، وتحصل المعادلة بين الفرقتين، فإن الأولى أدركت مع الإمام فضيلة الإحرام، والثانية فضيلة السلام.
صلاة النبي ﷺ كما رواها ابن عمر (روى هذا الصفة البخاري ومسلم)، وهي التي اختارها الحنفية: أن يجعل الإمام الناس طائفتين: طائفة في وجه العدو، وطائفة خلفه، فيصلي بهذه الطائفة ركعة وسجدتين وتتمم صلاتها عند الجمهور بقراءة سورة الفاتحة وتسلم وتذهب للحراسة. وقال الحنفية: ثم تمضي إلى وجه العدو للحراسة بدون إتمام الصلاة.
وتأتي الطائفة الأخرى، فيصلي بهم الإمام ركعة وسجدتين، ويتشهد ويسلم وحده لتمام صلاته، ولم يسلموا عند الحنفية لأنهم مسبوقون، وإنما يذهبون مشاة للحراسة في وجه العدو. وتتمم هذه الطائفة صلاتها عند الجمهور بقراءة سورة مع الفاتحة ثم تعود لمواقعها. وقال الحنفية: ثم تجيء الطائفة الأولى إلى مكانها الأول، أو تصلي في مكانها تقليلاً للمشي، فتتمم صلاتها وحدها بغير قراءة عند الحنفية، لأنهم في حكم اللاحقين، وتشهدوا وسلموا، وعادوا لحراسة العدو.
ثم تأتي الطائفة الثانية، فتتمم صلاتها بقراءة سورة مع الفاتحة، لأنهم لم يدخلوا مع الإمام في أول الصلاة، فاعتبروا في حكم السابقين.
كيفية أداء الصلوات الخمس حال الإقامة:
فإن كان الإمام مقيماً صلى بالطائفة الأولى ركعتين من الرباعية، وبالطائفة الثانية ركعتين تسوية بينهما. ويصلي - في المذاهب الأربعة - بالطائفة الأولى ركعتين من المغرب، وبالثانية ركعة، لأنه إذا لم يكن بدّ من التفضيل فالأولى أحق به، وما فات الثانية ينجبر بإدراكها السلام مع الإمام. ويصلي الصبح بكل طائفة ركعة.
صلاة النبي ﷺ في بطن نخل (مكان من نجد بأرض غطفان) (روى هذه الصفة البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، واعتمدها الشافعية بعد صلاة ذات الرقاع إذا كان العدو في غير جهة القبلة: وهي أن يصلي الإمام مرتين صلاة كاملة، بكل طائفة مرة، ويسلم بكل طائفة. وصفتها حسنة قليلة الكلفة لا تحتاج إلى مفارقة الإمام ولا إلى تعريف كيفية الصلاة، وليس فيها أكثر من أن الإمام في الصلاة الثانية متنفل يؤم مفترضين، وهو جائز اتفاقاً، وعند الحنابلة والحنفية جائز في صلاة الخوف فقط، ممنوع في غيرها.
صلاة النبي ﷺ في ذات الرقاع كما رواها جابر (روى هذه الصفة البخاري ومسلم وأحمد): وهي أن يصلي الإمام الصلاة الرباعية تامة أربعاً بالنسبة إليه، وتصلي معه كل طائفة صلاة مقصورة ركعتين، بلا قضاء للركعتين، فكان للإمام أربع تامة، وللقوم ركعتان مقصورة.
صلاة النبي ﷺ بذي قَرَد (ماء على بريد: 22176 م من المدينة) (روى هذه الصفة أبو داود والنسائي)، ومنعها أكثر الفقهاء، وأجازها الإمام أحمد والمحدثون لصحة الأحاديث فيها: وهي أن يصف الإمام الناس صفين: صفاً خلفه، وصفاً موازياً للعدو، ويصلي الرباعية الجائز قصرها بكل طائفة ركعة فقط، بلا قضاء ركعة أخرى.
صلاته ﷺ بأصحابه عام غزوة نجد، رواها أبو داود والنسائي: وهي أن تقوم مع الإمام طائفة، وتبقى طائفة أخرى تجاه العدو، وظهرها إلى القبلة، ثم يحرم وتحرم معه الطائفتان، وتصلي معه إحدى الطائفتين ركعة، ثم يذهبون فيقومون في وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الأخرى، فتصلي لنفسها ركعة، والإمام قائم، ثم يصلي بهم الركعة التي بقيت معه. ثم تأتي الطائفة القائمة في وجه العدو، فيصلون لأنفسهم ركعة، والإمام قاعد، ثم يسلم الإمام ويسلمون جميعاً، أي أن ابتداء الصلاة وانتهاءها تم باشتراك الطائفتين مع الإمام.
حمل السلاح في أثناء الصلاة:
يسن للمصلي عند الشافعية والحنابلة في صلاة شدة الخوف حمل السلاح في أثناء الصلاة احتياطاً، ليدفع به العدو عن نفسه، لقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} وقوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} فدل على الجناح (الإثم) عند عدم ذلك، لكن لا يحمل في الصلاة سلاحاً نجساً، ولا ما يتأذى به الناس من الرمح في وسط الناس.
سهو الإمام في صلاة الخوف:
قال المالكية والشافعية والحنابلة: إذا فرق الإمام العسكر فرقتين كما حدث في صلاة ذات الرقاع أو صلاة عسفان، فسهو الإمام في الركعة الأولى يلحق الجميع، فيسجد المفارقون للسهو عند تمام صلاتهم، لأن نفس صلاة الإمام نقص في صلاتهم، إلا أن المالكية قالوا: تسجد الفرقة الأولى السجود القبلي قبل السلام، والبعدي بعده، وتسجد الفرقة الثانية السجود القبلي مع الإمام، وتسجد السجود البعدي بعد قضاء ما عليها.
أما بعد المفارقة في الركعة الثانية: فلا يلحق سهو الإمام الأولين: لمفارقتهم الإمام قبل السهو.
وتسجد الفرقة الثانية مع الإمام آخر صلاته، ويلحقهم سهوه في حال انتظارهم.
أما سهو كل فرقة في الركعة الأولى للفرقة الأولى، وفي الركعة الثانية للفرقة الثانية، فيتحمله الإمام، لاقتداء الفرقة الأولى بالإمام حقيقة في الركعة الأولى واقتداء الفرقة الثانية حكماً في الركعة الثانية.
بطلان صلاة الخوف
ذهب الحنفية إلى أنه: تفسد صلاة الخوف بمشي لغير اصطفاف، وسبق حدث، وركوب مطلقاً أي لاصطفاف أو غيره، لأن الركوب عمل كثير، وهو مما لا يحتاج إليه، بخلاف المشي، فإنه أمر لابد منه، حتى يصطفوا بإزاء العدو.
كما تفسد بقتال كثير، لا بقليل كرَمْية سهم، فلا يقاتل المصلون حال الصلاة لعدم الضرورة إليه، فإذا فعلوا ذلك، وكان كثيراً، بطلت صلاتهم لمنافاته للصلاة من غير ضرورة إليه، بخلاف المشي، فإنه ضروري لأجل الاصطفاف.
قال الشافعية: لا يجوز الصياح ولا غيره من الكلام بلا خلاف، فإن صاح فبان منه حرفان، بطلت صلاته بلا خلاف، لأنه ليس محتاجاً إليه، بخلاف المشي وغيره.
ولا تضر الأفعال اليسيرة بلا خلاف، لأنها لا تضر في غير الخوف ففيه أولى.
وأما الأفعال الكثيرة: فإن لم تتعلق بالقتال، بطلت الصلاة بلا خلاف. وإن تعلقت به كالطعنات والضربات المتوالية، فإن لم يحتج إليها أبطلت بلا خلاف أيضاً، لأنها عبث.
وإن احتاج إليها فالأصح عند الأكثرين: أن الصلاة لا تبطل، قياساً على المشي، ولأن مدار القتال على الضرب، ولا يحصل المقصود غالباً بضربة وضربتين، ولا يمكن التفريق بين الضربات.
الصلاة عند التحام القتال واشتداد الخوف:
اتفق الفقهاء على أنه ليس للصلاة كيفية معينة عند اشتداد الخوف من العدو، ويصلي العسكر إيماء. وعبارات الفقهاء في ذلك ما يأتي:
ذهب الحنفية إلى أنه إذا: إن اشتد خوف العسكر بحيث لا يدعهم العدو يصلون وعجزوا عن النزول، صلوا ركباناً فرادى، لأنه لا يصح الاقتداء لاختلاف المكان بين الإمام والمأمومين، ويومئون بالركوع والسجود إلى أي جهة شاءوا، إذا لم يقدروا على التوجه إلى القبلة، لقوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً}، وسقط التوجه للقبلة للضرورة، كما سقطت أركان الصلاة.
والسابح في البحر: إن أمكنه أن يرسل أعضاءه ساعة صلى بالإيماء، وإلا لا تصح صلاته، كصلاة الماشي والسائف، وهو يضرب بالسيف، فلا يصلي أحد حال المسايفة.
وذهب المالكية إلى أنه: تجوز الصلاة عند اشتداد الخوف، وفي حال المسايفة أو مناشبة الحرب، في آخر الوقت المختار، إيماء بالركوع والسجود إن لم يمكنا، ويخفض للسجود أكثر من الركوع، فرادى (وُحداناً)، بقدر الطاقة، مشاة وركباناً، وقوفاً أو ركضاً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
فيحل للمصلي صلاة الالتحام للضرورة مشي وهرولة وجري وركض، وضرب وطعن للعدو، وكلام من تحذير وإغراء، وأمر ونهي، وعدم توجه للقبلة، ومسك سلاح ملطخ بالدم. فإن أمنوا في صلاة الالتحام أتموا صلاة أمن بركوع وسجود.
وذهب الشافعية إلى أنه: إذا التحم القتال أو اشتد الخوف يصلي كل واحد كيف أمكن راكباً وماشياً، وأومأ للركوع والسجود، إن عجز عنهما، والسجود أخفض. ويعذر في ترك القبلة، وكذا الأعمال الكثيرة لحاجة في الأصح ولا يعذر في الصياح بل تبطل به الصلاة، ويُلقي السلاح إذا دُمي دماً لا يعفى عنه، حذراً من بطلان الصلاة، فإن احتاج إلى إمساكه بأن لم يكن له منه بد، أمسكه للحاجة. ولا قضاء للصلاة حينئذ في الأظهر.
وله أن يصلي هذه الصلاة (أي شدة الخوف) حضراً وسفراً، في كل قتال وهزيمة مباحين وهرب من حريق وسيل وسبع وغريم عند الإعسار، وخوف حبسه.
وذهب الحنابلة إلى أنه: إذا كان الخوف شديداً، وهم في حال المسايفة، صلوا رجالاً وركباناً، إلى القبلة وإلى غيرها، يومئون إيماء بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم كالمريض، يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا أو إلى غيرها. ويتقدمون ويتأخرون، ويضربون ويطعنون، ويكرون ويفرون، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها.
ويصح أن يصلوا في حال شدة الخوف جماعة، بل تجب، رجالاً وركباناً، بشرط إمكان المتابعة، فإن لم تمكن لم تجب الجماعة ولا تنعقد.
ولا يضر تأخر الإمام عن المأموم في شدة الخوف، للحاجة إليه.
ولا يضر تلويث سلاحه بدم ولو كان كثيراً، وتبطل الصلاة بالصياح والكلام لعدم الحاجة إليه.
وتجوز هذه الصلاة لمن هرب من عدوه هرباً مباحاً كخوف قتل أو أسر محرَّم بأن يكون الكفار أكثر من مثلي المسلمين، أو هرب من سيل أو سبع ونحوه، كنار أو غريم ظالم، أو خاف على نفسه أو أهله أو ماله من شيء مما سبق.
الجنائز
التعريف:
الجنائز جمع جنازة بالفتح: الميت، وبالكسر: السرير الذي يوضع عليه الميت.
أولاً: أحكام المحتضر:
تعريف المحتضر وتوجيهه وتلقينه:
المحتضر هو من حضر الموت وملائكته، والمراد من قرب موته، علامة الاحتضار -كما أوردها ابن عابدين- أن تسترخي قدماه فلا تنتصبان، ويعوج أنفه، وينخسف صدغاه، ويمتد جلد خصيتيه لانشمار الخصيتين بالموت،وتمتد جلدة وجهه فلا يرى فيها تعطف.
ما ينبغي فعله بعد الموت، وما لا ينبغي فعله:
ما ينبغي فعله بعد الموت:
اتفق الفقهاء على أنه إذا مات الميت شُدَّ لِحياه، وغمضت عيناه، فإن النبي ﷺ دخل على أبي سلمة، وقد شق بصره فأغمضه وقال: "إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر" [أخرجه مسلم].
الإعلام بالموت:
يستحب أن يعلم جيران الميت وأصدقاؤه حتى يؤدوا حقه بالصلاة عليه والدعاء له، روى سعيد بن منصور عن النخعي: لا بأس إذا مات الرجل أن يؤذن صديقه وأصحابه.
وكره بعض الحنفية النداء في الأسواق قال في النهاية: إن كان عالماً، أو زاهداً، أو ممن يتبرك به، فقد استحسن بعض المتأخرين النداء في الأسواق لجنازته وهو الأصح، ولكن لا يكون على هيئة التفخيم، وينبغي أن يكون بنحو، مات الفقير إلى الله تعالى فلان ابن فلان.
وقال المالكية: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات:
الأولى: إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة.
والثانية: الدعوة للمفاخرة بالكثرة فهذا مكروه.
والثالثة: الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا محرم.
قضاء الدين:
يستحب أن يسارع إلى قضاء دينه أو إبرائه منه، وبه قال أحمد لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً "نفس المؤمن معلقة بِدَينه حتى يقضى عنه" [أخرجه الإمام أحمد].
وقال الحنابلة: إن تعذر الوفاء استحب لوارثه أو غيره أن يتكفل عنه، والكفالة بدين الميت قال بصحتها أكثر الأئمة.
تجهيز الميت:
اتفق الفقهاء على أنه إن تيقن الموت يبادر إلى التجهيز ولا يؤخر لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله" [أخرجه داود].
مالا ينبغي فعله بعد الموت:
قراءة القرآن عند الميت:
تكره عند الحنفية قراءة القرآن عند الميت حتى يغسل.
وعند المالكية يكره قراءة شيء من القرآن مطلقاً.
وذهب الشافعية إلى أنه لا يقرأ عند الميت قبل الدفن لئلا تشغلهم القراءة عن تعجيل تجهيزه، أما بعد الدفن فيندب عندهم.
النوح والصياح على الميت:
يكره النوح، والصياح، وشق الجيوب، في منزل الميت، وفي الجنائز، أو في محل آخر للنهي عنه، ولا بأس بالبكاء بدمع قال الحنفية: والصبر أفضل.
فقد روى الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله ﷺ بريء من الصالقة والحالقة والشّاقة(1) [متفق عليه].
___________________
(1) والصالقة: هي التي ترفع صوتها بالبكاء. والحالقة هي التي تحلق رأسها عند المصيبة والشاقة هي التي تشق ثوبها عند المصيبة.
شق بطن الميتة لإخراج الجنين:
ذهب الحنفية وبعض الشافعية، إلى أنه إن ماتت امرأة والولد يضطرب في بطنها يشق بطنها ويخرج الولد، ومذهب الشافعية وهو المتجه عند الحنابلة، أنه يشق للولد إن كان ترجى حياته. فإن كان لا ترجى حياته فالأصح أنه لا يشق.
وقال المالكية: لا يشق بطن المرأة عن جنين ولو رجي حياته على المعتمد، ولكن لا تدفن حتى يتحقق موته ولو تغيرت.
واتفقوا على أنه إن أمكن إخراجه بحيلة غير الشق وجب.
غسل الميت:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن تغسيل الميت فرض كفاية بحيث إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
تكفين الميت:
اتفق الفقهاء على أن تكفين الميت بما يستره فرض على الكفاية.
حمل الجنازة:
حكم الحمل وكيفيته:
أجمع الفقهاء على أن حمل الجنازة فرض على الكفاية، ويجوز الاستئجار على حمل الجنازة.
تشييع الجنازة:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن تشييع الرجال للجنازة سنة، لحديث البراء بن عازب: أمرنا رسول الله ﷺ باتباع الجنائز. والأمر هنا للندب لا للوجوب وهذا بإجماع الفقهاء.
وقال المالكية: اتباع الجنازة من الواجبات على الكفاية.
لما روي أن رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة.
وروي عن الصحابة كلا الأمرين وقد قال علي: إن فضل الماشي خلفها على الذي يمشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ.
وقال الثوري: كل ذلك في الفضل سواء.
وأما النساء فلا ينبغي لهن عند الحنفية أن يخرجن في الجنازة، فيكره خروجهن تحريماً.
وأما عند الشافعية فقال النووي: مذهب أصحابنا أنه مكروه، وليس بحرام.
وأما المالكية: جاز خروج متجالَّةٍ (كبيرة السن) لجنازة مطلقاً، وكذا شابة لا تخشى فتنتها، ولجنازة من عظمت مصيبته عليها، كأب، وأم، وزوج، وابن، وبنت، وأخ، وأخت، أما من تخشى فتنتها فيحرم خروجها مطلقاً.
وقال الحنابلة: كره أن تتبع الجنازة امرأة.
ما ينبغي أن يفعل مع الجنازة وما لا ينبغي:
اتباع الجنازة بمبخرة أو نار:
اتفق الفقهاء على أن الجنازة لا تتبع بنار في مجمرة (مبخرة) ولا شمع، ولا تتبع الجنازة بصوت ولا نار، ويكره تجمير القبر.
الجلوس قبل وضع الجنازة:
يكره لمتبع الجنازة أن يجلس قبل وضعها للنهي عن ذلك. فعن أبي هريرة مرفوعاً: "من تبع جنازة فلا يقعدن حتى توضع"[متفق عليه].
القيام للجنازة:
مذهب الحنفية وأحمد لا يقوم للجنازة (إذا مرت به) إلا أن يريد أن يشهدها، وكذا إذا كان القوم في المصلى، وجيء بجنازة.
وقال الحنابلة: كره قيام لها (أي للجنازة) لو جاءت أو مرت به وهو جالس، كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ ترك القيام للجنازة، والأخذ بآخر الأمرين أولى.
وقال الشافعية: المشهور في مذهبنا أن القيام ليس مستحباً.
وقال بعض الشافعية إن القيام مستحب وهذا هو المختار والمعتمد فيكون الأمر به للندب، والقعود لبيان الجواز.
الصمت في اتباع الجنازة:
ينبغي لمن تبع الجنازة أن يطيل الصمت، ويكره رفع الصوت بالذكر وقراءة القرآن وغيرهما.
قال الحنفية: ولا ينبغي أن يرجع من يتبع جنازة حتى يصلي عليها، لأن الاتباع كان للصلاة عليها، فلا يرجع قبل حصول المقصود.
وبه قال المالكية وزادوا أن الانصراف قبل الصلاة يكره ولو أذن أهلها، وبعد الصلاة لا يكره إذا طولوا ولم يأذنوا.
وقال الشافعية أيضاً: يكون رفع الصوت بالذكر بدعة، قالوا: يكره اللغط في الجنازة.
الصلاة على الجنازة:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الصلاة على الجنازة فرض على الكفاية.
شروط صلاة الجنازة:
يشترط لصحة صلاة الجنازة ما يشترط لبقية الصلوات من الطهارة الحقيقية بدناً وثوباً ومكاناً، والحكمية، وستر العورة واستقبال القبلة، والنية، سوى الوقت.
وشرط الحنفية أيضاً ما يلي:
أولها: إسلام الميت لقوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة:84].
والثاني: طهارته من نجاسة حكمية وحقيقية في البدن، فلا تصح على من لم يغسل، ولا على من عليه نجاسة، وهذا الشرط عند الإمكان.
والثالث: تقديم الميت أمام القوم فلا تصح على ميت موضوع خلفهم.
والرابع: حضوره أو حضور أكثر بدنه أو نصفه مع رأسه.
والخامس: وضعه على الأرض أو على الأيدي قريباً منها.
والسادس: ستر عورته.
والسابع: محاذاة الإمام جزءاً من أجزاء الميت إذا كان الميت واحداً، وأما إذا كثر الموتى فيجعلهم صفاً ويقوم عند أفضلهم.
وأما سننها فتفصيلها كما يلي:
الأولى: قيام الإمام بحذاء صدر الميت ذكراً كان الميت أو أنثى سنة عند الحنفية.
وقال المالكية ليس لصلاة الجنازة سنن بل لها مستحبات، منها وقوف الإمام والمنفرد حذاء وسط الرجل، ومنكبي المرأة والخنثى.
وقال الشافعية: إنهما يقومان عند رأس الرجل، وعند عجز المرأة أو الخنثى.
وقال الحنابلة: عند صدر الرجل، ووسط الأنثى، وسن ذلك من خنثى.
الثانية: الثناء بعد التكبيرة الأولى سنة عند الحنفية وهو اختيار الحنابلة وهو: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك.
وقال المالكية: لا ثناء في التكبيرة الأولى، ولكن ابتداء الدعاء بحمد الله والصلاة على النبي ﷺ مندوب، أي بعد التكبيرة الثانية وقال الحنابلة أيضاً: لا يستفتح.
وجاء قراءة الفاتحة بقصد الثناء كذا نص عليه الحنفية، وقال علي القاري: يستحب قراءتها بنية الدعاء خروجاً من الخلاف.
الثالثة: ومن السنن عند الحنفية الصلاة على النبي ﷺ بعد التكبيرة الثانية بقوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد إلى آخره.
وقال المالكية: الصلاة على النبي ﷺ مندوبة عقب كل تكبيرة قبل الشروع في الدعاء.
الرابعة: من السنن عند الحنفية دعاء المصلي للميت ولنفسه (وإذا دعا لنفسه قدم نفسه على الميت لأن من سنة الدعاء أن يبدأ فيه بنفسه) ولجماعة المسلمين، وذلك بعد التكبيرة الثالثة، ولا يتعين للدعاء شيء سوى كونه بأمور الآخرة، ولكن إن دعا بالمأثور عن النبي ﷺ فهو أحسن وأبلغ لرجاء قبوله.
فمن المأثور ما حفظ عوف بن مالك من دعاء النبي ﷺ على جنازة "اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار" [أخرجه مسلم].
فإن كان الميت صغيراً فعن أبي حنيفة ينبغي أن يقول: اللهم اجعله لنا فرطا، واجعله لنا أجراً وذخراً، اللهم اجعله لنا شافعاً ومشفعاً.
وقال الحنابلة: إن كان صغيراً أو استمر مجنوناً قال: اللهم اجعله ذخراً لوالديه-الخ وظاهره الاقتصار عليه.
وصرح الشافعية بأن هذا الدعاء يكون بدل الدعاء المذكور للبالغين، وهو ظاهر كلام المالكية أيضاً، فكأن أقوال الأربعة اتفقت في الدعاء للصغير بهذه الصيغة.
الدعاء للميت:
الدعاء عند المالكية والحنابلة ركن، ولكن عند المالكية يدعو عقب كل تكبيرة حتى الرابعة، وفي قول آخر عندهم لا يجب بعد الرابعة كما تقدم، وأقل الدعاء أن يقول: اللهم اغفر ونحو ذلك.
وأحسنه أن يدعو بدعاء أبي هريرة وهو أن يقول: بعد حمد الله تعالى والصلاة على النبي ﷺ: اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده.
ويقول في المرأة: اللهم إنها أمتك وبنت عبدك وبنت أمتك، ويستمر في الدعاء المتقدم بصيغة التأنيث، ويقول في الطفل الذكر: اللهم إنه عبدك وابن عبدك أنت خلقته، وأنت أمتَّه وأنت تحييه، اللهم اجعله لوالديه سلفاً وذخراً، وفرضا وأجرا، وثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، ولا تفتنا وإياهما بعد، اللهم ألحقه بصالح سلف المؤمنين في كفالة إبراهيم.
ويزيد في الكبير: وأبدله دار خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله، وعافه من فتنة القبر وعذاب جهنم.
وليس لصلاة الجنازة عند المالكية سنن بل لها مستحبات، وهي: الإسرار بها، ورفع اليدين عند التكبيرة الأولى فقط، حتى يكونا حذو أذنيه، وابتداء الدعاء بحمد الله، والصلاة على النبي ﷺ، ووقوف الإمام عند وسط الرجل، وعند منكبي المرأة، وأما المأموم فيقف خلف الإمام كما يقف في غيرها من الصلاة، وجهر الإمام بالسلام والتكبير بحيث يسمع من خلفه، وأما غيره فيسر فيها.
وقال الشافعية: سنتها التعوذ قبل الفاتحة والتأمين، والإسرار بالقراءة والدعاء وسائر الأقوال فيها ولو فعلت ليلاً، عدا التكبير والسلام فيجهر بها، وفعل الصلاة في الجماعة، وأن يكونوا ثلاثة صفوف فأكثر إذا أمكن، وأقل الصف اثنان ولو بالإمام، ولا تكره مساواة المأموم للإمام في الوقوف حينئذ.
وقال الحنابلة: سننها فعلها في جماعة، وأن لا ينقص عدد كل صف عن ثلاثة إن كثر المصلون، وإن كانوا ستة جعلهم الإمام صفين، وإن كانوا أربعة جعل كل اثنين صفاً، ولا تصح صلاة من صلى خلف الصف وحده كغيرها من الصلاة، وأن يقف الإمام والمنفرد عند صدر الرجل ووسط الأنثى، وأن يسر بالقراءة والدعاء فيها وقد ذكروا التعوذ والتسمية قبل قراءة الفاتحة، ولم يطلع على تصريح لهم بسنيتها.
صفة صلاة الجنازة:
مذهب الحنفية أن الإمام يقوم في الصلاة على الجنازة بحذاء الصدر من الرجل والمرأة، وهذا أحسن مواقف الإمام من الميت للصلاة عليه، وإن وقف في غيره جاز.
وعند المالكية يندب أن يقف الإمام وسط الذكر وحذو منكبي غيره.
ومذهب الشافعية أن الإمام يقوم ندباً عند رأس الرجل، وعجيزة المرأة.
وقال الحنابلة: يقوم عند صدر رجل، وقيل عند رأسه، ووسط امرأة، وبين الصدر والوسط من الخنثى، لحديث أنس وفيه أنه صلى على امرأة فقام وسط السرير.
ما يفعل المسبوق في صلاة الجنازة:
إذا جاء رجل وقد كبر الإمام التكبيرة الأولى ولم يكن حاضراً انتظره حتى إذا كبر الثانية كبر معه، فإذا فرغ الإمام كبر المسبوق التكبيرة التي فاتته قبل أن ترفع الجنازة، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وقال المالكية: إذا جاء والإمام مشتغل بالدعاء فإنه يجب عليه أن لا يكبر حتى إذا كبر الإمام كبر معه، فإن لم ينتظر وكبر صحت صلاته ولكن لا تحتسب تكبيرته هذه، سواء انتظر أو لم ينتظر، وإذا سلم الإمام قضى المأموم ما فاته من التكبير سواء رفعت الجنازة فوراً أو بقيت، إلا أنه إذا بقيت الجنازة دعا عقب كل تكبيرة يقضيها، وإن رفعت فوراً وإلى التكبير ولا يدعو لئلا يكون مصلياً على غائب والصلاة على الغائب غير مشروعة عندهم.
وقال الشافعية: إذا جاء المأموم وقد فرغ الإمام من التكبيرة الأولى أو غيرها، واشتغل بما بعدها من قراءة أو غيرها، فإنه يدخل معه ولا ينتظر الإمام حتى يكبر التكبيرة التالية، إلا أنه يسير في صلاته على نظم الصلاة لو كان منفرداً، فبعد أن يكبر التكبيرة الأولى يقرأ من الفاتحة ما يمكنه قراءته قبل تكبير الإمام ويسقط عنه الباقي، ثم يصلي على النبي ﷺ بعد الثانية وهكذا، فإذا فرغ الإمام أتم المأموم صلاته على النظم المذكورة، ويأتي بالأذكار في مواضعها، سواء بقيت الجنازة أو رفعت، وإذا لم يمكنه قراءة شيء من الفاتحة إن كبر إمامه عقب تكبير المسبوق للإحرام معه وتحمل الإمام عنه كل الفاتحة.
وقال الحنابلة: من سبق ببعض الصلاة كبر ودخل مع الإمام حيث أدركه ولو بين تكبيرتين ندباً كالصلاة، أو كان إدراكه له بعد تكبيرة الرابعة قبل السلام، فيكبر للإحرام معه ويقضي ثلاث تكبيرات استحباباً، ويقضي مسبوق ما فاته قبل دخوله مع الإمام على صفته، لأن القضاء يحكي الأداء كسائر الصلوات، ويكون قضاؤه بعد سلام الإمام كالمسبوق في الصلاة.
ترك بعض التكبيرات:
ولو سلم الإمام بعد الثالثة ناسياً كبر الرابعة ويسلم.
وقال الحنابلة: إن ترك غير مسبوق تكبيرة عمداً بطلت، وإن ترك سهواً فإن كان مأموماً كبرها ما لم يطل الفصل (أي بعد السلام)، وإن كان إماماً نبهه المأمومون فيكبرها ما لم يطل الفصل، وصحت صلاة الجميع، فإن طال أو وجد مناف استأنف، وصحت صلاة المأمومين إن نووا المفارقة.
وقال الشافعية: تبطل صلاة الجميع إن كان النقص قصداً من الإمام، وإن كان سهواً تداركه الإمام والمأموم كالصلاة، ولا سجود للسهو هنا.
وقال المالكية: إن كان النقص من الإمام عمداً بطلت صلاة الجميع، وإن سهواً سبح المأمومون، فإن رجع عن قرب وكمل التكبير كملوا معه وصحت صلاة الجميع، وإن لم يرجع أو لم ينتبه إلا بعد زمن طويل كملوا هم، وصحت صلاتهم وبطلت صلاته.
الصلاة على جنائز مجتمعة:
اتفق الفقهاء على أنه إذا اجتمعت جنائز يجوز أن يصلي عليهم مجتمعين أو فرادى ثم اختلفوا:
فقال الحنفية: فالإمام إن شاء صلى على كل واحدة على حدة، وإن شاء صلى على الكل دفعة واحدة بالنية على الجميع.
والمذهب عند الشافعية: أن الإفراد أفضل من أن يصلي عليهم دفعة واحدة لأنه أكثر عملاً وأرجى للقبول.
وقال الحنابلة: إذا اجتمعت جنائز فجمعهم في الصلاة عليهم أفضل من الصلاة على كل واحد منهم منفرداً، وذلك لأجل المحافظة على الإسراع والتخفيف.
وقال مالك: أرى ذلك واسعاً إن جعل بعضهم خلف بعض، أو جعلوا صفاً واحداً، ويقوم الإمام وسط ذلك ويصلي عليهم. وإن كانوا غلماناً ذكوراً أو نساء جعل الغلمان مما يلي الإمام والنساء من خلفهم مما يلي القبلة، وإن كن نساء صنع بهن كما يصنع بالرجال كل ذلك واسع بعضهم خلف بعض صفاً واحداً.
وإذا كبر الإمام على جنازة فجيء بأخرى مضى على صلاته على الأولى، فإذا فرغ استأنف على الثانية، وإن كان لما وضعوا الثانية كبر الأخرى ينويها فهي للأولى أيضاً، ولا يكون للثانية، وإن كبر الثانية ينوي الثانية وحدها فهي للثانية وقد خرج من الأولى، فإذا فرغ أعاد الصلاة على الأولى وهذا ما ذهب إليه الحنفية.
وقال الحنابلة: لو كبر فجيء بأخرى كبر ثانية ونواهما، فإن جيء بثالثة ونوى الجنائز الثلاث، فإن جيء برابعة كبر رابعة ونوى الكل، فيصير مكبراً على الأولى أربعاً وعلى الثانية ثلاثاً، وعلى الثالثة اثنتين، وعلى الرابعة واحدة، فيأتي بثلاث تكبيرات أخر، فيتم التكبيرات سبعاً، يقرأ في خامسة ويصلي (على النبي ﷺ) بسادسة، ويدعو بسابعة، فيصير مكبراً على الأولى سبعاً، وعلى الثانية ستاً، وعلى الثالثة خمساً، وعلى الرابعة أربعاً.
الحدث في صلاة الجنازة:
ذهب الحنفية إلى أنه إن كان الإمام على غير الطهارة تعاد الصلاة، وإن كان الإمام على طهارة والقوم على غير طهارة صحت صلاة الإمام ولا تعاد الصلاة عليه.
وقال الشافعية: لو صلى الإمام غير متوضىء ومن خلفه متوضئون أجزأت صلاتهم، وإن كانوا كلهم غير متوضئين أعادوا، وإن كان فيهم ثلاثة فصاعدا متوضئون أجزأت.
وقال مالك: إذا أحدث إمام الجنازة يأخذ بيد رجل فيقدمه فيكبر ما بقي على هذا الذي قدمه، ثم إن شاء رجع بعد أن يتوضأ فصلى ما أدرك وقضى ما فاته، وإن شاء ترك ذلك.
الصلاة على القبر:
لو دفن الميت قبل الصلاة أو قبل الغسل فإنه يصلى عليه وهو في قبره ما لم يعلم أنه تمزق، وهذا مذهب الحنفية.
وقال مالك: لا يصلى على القبر إن دفن قبل أن يصلى عليه، أخرج وصلي عليه ما لم يفت، فإن فات صلي عليه في قبره.
وعند الشافعية يجوز الصلاة على المقبور لكل من فاتته الصلاة عليه قبل دفنه.
وعند أحمد يجوز لمن فاتته الصلاة على الميت أن يصلي على قبره إلى شهر من دفنه وزيادة يسيرة كيومين ويحرم بعدها.
وحكي عن الأوزاعي تجويزه الصلاة على القبر ولم يحك عنه التحديد.
الصلاة على الجنازة في المسجد:
مذهب الحنفية أنه تجوز الصلاة عل الجنازة في الجبانة والأمكنة والدور وهي فيها سواء، ويكره في الشارع وأراضي الناس، وكذا تكره أي تكره كراهة تنزيه في المسجد الذي تقام فيه الجماعة سواء كان الميت والقوم في المسجد، أو كان الميت خارج المسجد والقوم في المسجد، أو الميت في المسجد، والإمام والقوم خارج المسجد، وهو المختار.
وقال مالك: أكره أن توضع الجنازة في المسجد، فإن وضعت قرب المسجد للصلاة عليها فلا بأس أن يصلي من في المسجد عليها بصلاة الإمام الذي يصلي عليها إذا ضاق خارج المسجد بأهله.
وقال الشافعية: تندب الصلاة على الميت في المسجد إذا أمن تلويثه، إما إذا خيف تلويث المسجد فلا يجوز إدخاله، وحجة جواز الصلاة على الجنازة في المسجد، لأنه ﷺ صلى فيه على سهل وسهيل ابني بيضاء كما رواه مسلم.
قال الشافعية: فالصلاة عليه لذلك، لأن المسجد أشرف.
وقال الحنابلة: تباح الصلاة على الجنازة في المسجد مع أمن تلويث، فإن لم يؤمن لم يجز.
الصلاة على الجنازة في المقبرة:
فيها للفقهاء قولان:
أحدهما: لا بأس بها، وهو مذهب الحنفية كما تقدم ورواية عن أحمد، لأن النبي ﷺ صلى على قبر، وهو في المقبرة.
والقول الثاني: يكره ذلك،لأنه ليس بموضع للصلاة غير صلاة الجنازة فكرهت فيه صلاة الجنازة كالحمام.
من يصلى عليه ومن لا يصلى عليه:
يرى الحنفية أنه يصلى على كل مسلم مات بعد الولادة صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، حراً كان أو عبداً، إلا البغاة وقطاع الطريق ومن بمثل حالهم.
وكره مالك لأهل الفضل الصلاة على أهل البدع.
وقال الحنابلة: حرم أن يعود أو يغسل مسلم صاحب بدعة مكفرة، أو يكفنه، أو يصلى عليه، أو يتبع جنازته.
ويرى الحنفية أن من قتل نفسه ولو عمداً يغسل ويصلى عليه، به يفتى وإن كان أعظم وزراً من قاتل غيره.يصلى عليه.
وقال مالك: يصلى على الذين كابروا (أي البغاة) ولا يصلي عليهم الإمام وقال: يصلى على قاتل نفسه ويصنع به ما يصنع بموتى المسلمين وإثمه على نفسه.
وقال الحنابلة: لا يسن للإمام الأعظم وإمام كل قرية وهو واليها في القضاء، الصلاة على غالّ وقاتل نفسه عمداً، وإن صلى عليهما فلا بأس به.
ويرى الحنفية أن من قتل أحد أبويه لا يصلى عليه إهانة.
وقال مالك: كل من قتله الإمام على قصاص، أو في حد من الحدود، فإن الإمام لا يصلي عليه والناس يصلون عليه وكذا المرجوم.
ولا يصلى على من لم يستهل بعد الولادة كما تقدم.
وإذا اختلط موتانا بكفار صلي عليهم مطلقاً في أوجه الأقوال.
أما الشافعية فلم يستثنوا من الصلاة على الميت إلا الكافر والمرتد.
من له ولاية الصلاة على الميت:
ذهب الحنفية إلى أن أولى الناس بالصلاة على الميت السلطان إن حضر ثم نائبه وهو أمير المصر، ثم القاضي، فإن لم يحضر فصاحب الشرط ثم خليفة الوالي، ثم خليفة القاضي، ثم إمام الحي.
وفي الصلاة على الميت أبوه، ثم ابنه، ثم ابن ابنه وإن سفل، ثم الجد وإن علا، ثم الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، وهكذا الأقرب فالأقرب كترتيبهم في النكاح.
وقال المالكية: الأحق بالصلاة عليه وصي الميت إن كان أوصى إليه رجاء بركته وإلا فلا، ثم الخليفة وهو الإمام الأعظم، وأما نائبه فلا حق له في التقدم إلا إذا كان نائبه في الحكم والخطبة، ثم أقرب العصبة فيقدم الابن، ثم ابنه ثم الأب، ثم الأخ، ثم ابن الأخ، ثم الجد، ثم العم، ثم ابن العم وهكذا.
وقال الشافعية: الأولى بالصلاة عليه أبو الميت وإن علا، ثم ابنه وإن سفل، ثم الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ لأب، ثم بقية العصبة على ترتيب الميراث، فإن لم يكن فالإمام الأعظم، أو نائبه عند انتظام بيت المال، ثم ذوو الأرحام الأقرب فالأقرب.
وقال الحنابلة: الأولى بالصلاة عليه إماماً وصية العدل، ثم السلطان، ثم نائبه، ثم أبو الميت وإن علا، ثم ابنه وإن نزل، ثم الأقرب فالأقرب على ترتيب الميراث، ثم ذوو الأرحام، ثم الزوج، ونائب الولي بمنزلته بخلاف نائب الوصي فلا يكون بمنزلته.
ما يفسد صلاة الجنازة وما يكره فيها:
تفسد صلاة الجنازة عند الحنفية بما تفسد به سائر الصلوات من الحدث العمد والكلام، والعمل الكثير وغيرها من مبطلات الصلاة،إلا المحاذاة فإنها غير مفسدة في هذه الصلاة، لأن فساد الصلاة بالمحاذاة عرف بالنص، والنص ورد في الصلاة المطلقة فلا يلحق بها غيرها، ولهذا لم يلحق بها سجدة التلاوة حتى لم تكن المحاذاة فيها مفسدة، وكذا القهقهة في هذه الصلاة لا تنقص الطهارة، لأن القهقهة مبطلة بالنص الوارد في صلاة مطلقة، فلا يجعل واردا في غيرها.
وتكره الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعند انتصاف النهار، لحديث عقبة بن عامر: ثلاث ساعات نهانا رسول الله ﷺ أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا.
والمراد بقبر الموتى الصلاة على الجنازة دون الدفن.
وإنما تكره الصلاة على الجنازة كراهة تحريم عند الحنفية إذا حضرت في هذه الأوقات في ظاهر الرواية، ولكن في "تحفة الفقهاء": الأفضل أن يصلي على جنازة حضرت في تلك الأوقات ولا يؤخرها، بل قال الزيلعي: إن التأخير مكروه لقول النبي ﷺ لعلي رضي الله عنه: "ثلاث لا تؤخرها، الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدتَ لها كفئا". [أخرجه الترمذي].
أما إذا حضرت قبل الوقت المكروه فأخرها حتى صلى في الوقت المكروه فإنها لا تصح وتجب إعادتها.
ولا يكره أن يصلي على الجنازة بعد صلاة الفجر، أو بعد صلاة العصر، وكذا بعد طلوع الفجر، وبعد الغروب قبل صلاة المغرب، ولكن يبدأ بعد الغروب بصلاة المغرب أولا، ثم بالجنازة ثم بالسنة.
وقال ابن المبارك: معنى هذا الحديث " أو أن نقبر فيها موتانا" يعني الصلاة على الجنازة، وكرهها ابن المبارك عند طلوع الشمس وعند غروبها، وإذا انتصف النهار حتى تزول الشمس (كما قال أبو حنيفة) وهو قول أحمد وإسحاق وهو قول مالك والأوزاعي وهو قول ابن عمر.
وقال الشافعية: إذا وقع الدفن في هذه الأوقات بلا تعمد فلا يكره.
والنهي عند الشافعي محمول على الصلوات التي لا سبب لها.
التعزية، والرثاء، وزيارة القبور ونحو ذلك:
إذا فرغوا من دفن الميت يستحب الجلوس (المكث) عند قبره بقدر ما ينحر جزور ويقسم لحمه، فقد روى مسلم عن عمرو بن العاص أنه قال: إذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي [أخرجه مسلم ]. يتلون القرآن ويدعون للميت.
التلقين:
والتلقين بعد الدفن لا يؤمر به وينهى عنه. وظاهر الرواية عند الحنفية يقتضي النهي عنه، وبه.
قالت المالكية فقد ذهبوا إلى أن التلقين بعد الدفن وحاله مكروه، وإنما يندب حال الاحتضار فقط.
واستحبه الشافعية فقالوا: والتلقين هنا أن يقول الملقن مخاطباً للميت: يا فلان بن فلانة، إن كان يعرف اسم أمه وإلا نسبه إلى حواء عليها السلام، ثم يقول بعد ذلك أذكر العهد الذي خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حق ،والنار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام دينا، وبمحمد ﷺ نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً.
وقال الحنابلة: استحب الأكثر تلقينه، فيقوم عند رأسه بعد تسوية التراب فيقول.
صنع الطعام لأهل الميت:
ذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى أنه يستحب لجيران الميت والأباعيد من قرابته تهيئة طعام لأهل الميت يشبعهم يومهم وليلتهم، لقوله ﷺ: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم" [أخرجه أبو داود والترمذي].
ويلح عليهم في الأكل، لأن الحزن يمنعهم فيضعفهم، وبه قالت المالكية.
وصول ثواب الأعمال للغير:
من صام أو صلى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء جاز، ويصل ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة، واستثنى مالك والشافعي العبادات البدنية المحضة، كالصلاة والتلاوة، فلا يصل ثوابها إلى الميت عندهما، ومقتضى تحرير المتأخرين من الشافعية انتفاع الميت بالقراءة لا حصول ثوابها له.
وقال بعض المالكية: إن القراءة تصل للميت وأنها عند القبر أحسن مزية.