الغريبة
عضو مشاغب
[ ما ألذَّ (ثناء الناسِ) ]!
يا طالبَ العلمِ : فكِّر في مجالٍ (غيرِ العلمِ) لتُحَقِّقَ النَّجَاحَ والرِّضَا ، فما ألذَّ (ثناء النَّاس)!
مَدْخَلٌ :
يا طالبَ العلمِ :
سَبَقَ المُثَقَّفُون ، وأنتَ قاعدٌ بين دَفَّاتِ الكُتُبِ ،
تراجعُ - يا مِسكينُ - مسائلَ المذهبِ ، وتصحيحاتِ ابن رجب ،
واختيارات ابن تيميَّة ، وتعليقات الذهبيِّ ، ودُرَرِ ابن القيِّم ،
وتحقيقات الشاطبيِّ ، ترجيحات ابن عثيمين ،
وتؤرِّقُكَ قضيَّةُ " نَفْعِ النَّاس" بالوعظِ والتعليمِ !
دونَكَ الأسهلُ المفيدُ
أين زميلُكَ محمَّدٌ ؟
قد كانَ معك ذاهباً آيباً إلى حِلَقِ العِلْمِ ؛ لكنَّه نشط من عِقَالِه ،
فقرأ كتابَيْنِ ثقافِيَّيْنِ ، وبدأ يكتُبُ في صحيفةٍ ، بزاويةٍ مُلْفِتَةٍ ،
هنئياً له المالُ والشُّهْرَةُ !
أين رفيقُكَ خالدٌ ؟
كم قد سمرتَ معه الليلَ ، وأنتما تقرآن كتاباً في الآداب ،
وتتذاكرانِ المحفوظ من المسائلِ ؛ لكنَّهُ فاقَك عقلاً ؛
وجالسَ غيرَ العلماءِ ؛ فأيقنَ أنَّ شيوخَه قد بلغا من التحجُّر غاية ،
ورفعا للتشدُّدِ راية ؛ فراجعَ كلاماً للعلماء ، ثمَّ حبَّرْ مسائلَ
في العِلمِ غريبَة ، وبحثَ أقوالاً تراها مُريبَة ، فنامَ طالِباً
واستيقظَ مُرَجِّحاً ، وأضحى - بين الرُّعاعِ - مُزَكَّى بالعلمِ مُمَدَّحاً ؛
لخروجِه عن المألوفِ بأنواعٍ من الأدلِّة ، وإشباعِ رغباتِ النَّاسِ
بالأقوالِ المُسْتَلَّة ، هنئياً له السُّمْعَةُ والشُّهرَةُ !
لولا المشقَّةُ سادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ **
[ فابحَثْ غَرائبَ عِلْمٍ تَحْظَ بالرُّتَبٍِ ]
أرأيتَ كيفَ عَرَفُوا السبيل ، وتركوا الثقيل ؟!
فالأمرُ لا يحتاجُ سوى كلماتٍ تحفظُها ، وأراء تتصوَّرُها ؛
فلا تلبث أن تكونَ كاتبَ " منتدى " ، فـ" صحيفةٍ إلكترونيَّةٍ " ،
فـ" صحيفةٍ سيَّارةٍ "، وستكون ذا صِيْتٍ ، وذِكْرٍ حَسَنْ عمَّا قريبٍ ،
فماذا قدَّمتْ لك دراسةُ العلومِ الشَّرعيَّةِ والمسائلِ ؟!
عناءٌ لا ينقضي !
وإيَّاكَ ، وأن تحافظَ على اسمكَ " طالب علمٍ " ؛
فقد أضحى لقباً غيرَ مرغوبٍ فيه ، ولا مأسوفٍ على استبدالِهِ ،
وعليكَ بـ " مُثَقَّفٍ " ، أو " باحثٍ في الشُّؤون..." ، أو " كاتب " ، أو " أستاذ " .
هذا إن كنتَ لم تنَلْ لقبَ الدكتوراة ، أمَّا إن تَدَكْتَرتَ ؛
فلا تَنْمْ حتَّى تعلِّقَ على سريرِ نومِكَ : "سريرُ الدُّكتور".
ولا تنسبْ نفسَكَ لمدرسةٍ أبداً ، وإن كنتَ ذا وفاءٍ ؛
فادعُ لمن كان له فضلٌ عليك ، أما أن تُفْصِحَ عن كونِكَ
درستَ على شيوخٍ ليس لهم إلاَّ "حرامٌ " و " حلالٌ "
= فنسبةٌ غيرُ مناسبةٍ لما أرشِدُكَ إليه !
والآن ماذا تنتظرُ يا طالبَ العلمِ ؟
رصيدُكَ البنكيُّ قليلُ المالِ ، عليكَ ديونٌ ،
لا يأتي آخرُ الشَّهرِ إلاَّ وأنتَ تقترضُ ، وإن كنتَ ذا مالٍ ؛
فلا تكملُ لذَّةُ المالِ إلاَّ بلذَّةِ الثَّناء
فدونَكَ ما أوصيتُكَ به .
واجعلْ " النِتَّ " هجِّيراكَ ورفيقَك ،
وترقَّبْ كلَّ ساعةٍ تعقيباتِ المعقِّبين ، وتعليقاتِ القارئين ،
وانظرْ في ردودِهم ؛ فإن وجدَتَ نفسَكَ ممدوحاً ،
مشهوداً لك بِرُقِّيَ القَلَمِ = فاكتُبْ ،
واجعلْ بجوارِ ما تكتبُ صورةً لك ،
مع استحسانِ تهذيبِ اللحيةِ ما استطعتَ ؛
لتكونَ أجملَ ، وأبعدَ عن وصفكَ بالتديُّنِ المتشدِّدِ .
واحرصْ على الإغرابِ ما استطعتَ ، وغُصْ في الأفكارِ ،
واحفظْ أسماءَ أولادِ "اللوجيا" ، أتعرفُهم ؟
الآيدلوجيا ، والسِّيكولجيا ، والأنتولوجيا ،
وإخوانها وأخواتها،
وأتقنْها كإتقانِ جَدَّتِكَ أسماءَ أولادِ "الدُّوْل" :
الفيفادول ، والبندول، والأدُوْل ؛ فيَقْبُحُ بكَ أن تكتبَ مقالاً
دونَ التعريجِ على أحدِ أولادِ هذه العائلةِ ، فتضعف عند قُرَّائكَ
الثِّقةُ الثقافيَّةُ بكتاباتِك .
هذا طريقٌ سَلَكَه غيرُ واحدٍ من زملائنا ممن عرفناه طلبَ العلم ،
قد حقَّقَ ما يريدُ ، وتلذَّذَ بثناء النَّاسِ ، ومدائحهم ؛
فهو الكاتبُ الأديب ، والمثقَّفُ اللَّبيبِ ؛
فهنئياً له اللذَّةُ والشُّهرَةُ!
وبَعْدُ:
بهذه الخواطِرِ ، أو بوصايا غير الموفَّقينَ جنحَ بعضُ طلبةِ العلمِ
إلى هذه السبيلِ الغاويةِ ، فأسقطَ نفسَه في الهاويَة ،
قبل رسوخِ القدم ، وهي مِنْ ضُرُوبِ الاستعجال ،
ونتائج الشَّهوةِ الظَّاهِرَةِ لا الخفيَّةِ .
حقّاً .. ما ألذَّ المدح والثناء !
إنَّ في القَلْبِ ثغرةً لا يسدُّها إلاَّ الثناءُ والمدحُ ؛
لكنَّ المحرومَ يتعجَّلُ سدَّ هذه الثغرةِ بطلبِ مدحِ النَّاسِ له ،
ولو أشركَ باللهِ .
والموفَّقُ مَنْ يدَّخِرُ سدَّها ليومِ الجزاءِ ؛ ليسمعها كِفاحاً مِنْ ربِّه ،
ويطلبُها في الدُّنيا من أبوابِها ، وذلكَ بذكرِ اللهِ في نفسِه ،
فيذكره اللهُ في نفسِه ، ويقومُ من الليلِ مصلِّياً ؛
فيحظى بمباهاةِ اللهِ له ملائكتَه ، ويذكرُ ذنباً فتمطر عينُهُ ،
فيثني عليه ربُّه ويرضى عنه ، وهكذا في تنقُّلٍ بين أصنافِ
العباداتِ مستصحباً الإخلاصَ ، والصِّدقَ ، والصَّبرَ ؛
مجاهِداً النَّفْسَ في أن يقعَ في أضدادِها ،
مُؤثراً لذَّةَ ثناءِ النَّاسِ بما هو أعظمُ لذَّة ، وأشرحُ قلباً ،
وأزكى حياةً ، وهو ثناءُ اللهِ ، ورضاهُ ، ومحبَّتُه .
وإذا أردتَ أن ترى مقدارَ الفرقِ بين طمعك فيما عند النَّاس ،
وطمعك فيما عند اللهِ ، فانظرْ حالَكَ حينما تُذَم بما تستحقُّ ،
كيفَ هو الهمُّ والضَّنكُ الذي يلحقُك ؟
وأنتَ تعصي اللهَ ، وتسوِّفُ بالتَّوْبَةِ ،
ولا تدري : آللهُ راضٍ عنكَ أم ساخِطٌ ،
ولا تسعى لرؤيةِ اللهِ من نفسِكَ خيراً من توبةٍ ، ونَدَمٍ ، وإصلاحٍ ،
فكيفَ تدَّعي أنَّكَ تريدُ اللهَ والدَّارَ الآخرَة ،
ولا يجتمعُ في قلبٍ إخلاصٌ وحُبُّ محمدةِ النَّاسِ
إلاَّ غلبَ أحدُهما الآخرَ وأحرقَه ،
ومَنْ لمْ يَجعِلِ اللهُ له نوراً فماله من نُوْرٍ !
الخميس 19/7/1431 هـ .
للشيخ ابو ريان