الغريبة
عضو مشاغب
من فضلك قم بتحديث الصفحة لمشاهدة المحتوى المخفي
ومضات مع كتاب
"السخرية والاستهزاء بين حرية الرأي واحتقار الآخر"
د. غنية عبد الرحمن النحلاوي
(من سلسلة أزمة مصطلح)
من الملاحظ التهوين من أمر السُّخرية في علاقاتنا الاجتماعية والإنسانية
مقارنة مع ممارسات سلوكية أخرى، وأننا نرتكب أخطاءً تربوية
في هذا المجال، كما يحدث حين يسخر الكبار أمام الصغار؛ بل ومنهم!
مع ذلك فقد تصرَّفْنا وكأننا صُعقنا دفعة واحدة بسخرية الآخرين منا ومن
مبادئنا ومُقدَّساتنا وأحب الناس إلينا، لا سيما بعد تجدُّد هذه السخرية
وتوسُّع نطاقها، وبدَونا كمَن اكتشف فجأة انتشار الخلية السرطانية في
الجسم، وقد كان يُغمض الطرف عن أعراض موحية هنا وهناك، حتى
أصابته ضربة موجعة كشفت شدة النَّخر والخُواء، وتعالت صيحات الألم
والغضب، وهذا رد فعل بديهي - كما سنرى - وإن كان نبَّهَنا إلى أخطائنا!
وفي هذا الكتاب[1]:
نقف في المُقدِّمة مع المعنى اللغوي والقرآني؛ فقد قال علماء اللغة: "سَخر منه
وبه: ضحك وهزئ منه وبه"، ونجلِّي فيها كيف أن السخرية ليست أخفَّ
ضررًا من الاستهزاء كما يُظنُّ خطأً.
ومما يتَّصل بالمُصطَلح: الهمز واللمز، ومن معانيه:
الانتقاص والاستِجْهال
؛ قال الفيروزآبادي في "سخر": "وفي سورة هود: ﴿ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا
نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾ [هود: 38]؛ أي: إن تَستجْهِلونا فإنا
نَسْتَجْهِلُكم كما تَستجهلونَنا".
وفي الفصل الأول نَنتقل إلى علم النفس التربوي؛ حيث المثير يحرِّض
الانفعال الذي يترجم إلى سلوك، وهنا فإن الهزء محرِّض مسيء لانفعالات
شتى أشبعها الغضب، والتي تتجلى بأنماط سلوكية سلبية، وقد تكون
مدمرة للساخر أو المسخور به أو لكليهما، لا سيما عندما تَمتهن السخريةُ
الكرامةَ، وتتضمَّن التحقير والافتراء والتشهير، وعندما تزدري مقدسات
الإنسان وقيَمه؛ ويزداد الأمر تعقيدًا بالعودة إلى دوافع السخرية مثل: الكبْر
والنِّفاق، والحقد والحسد، والجهل والسفاهة؛ لذلك كان أكثر أنواع
السخرية في الإسلام محرَّمًا، وبعضها مكروهًا، وكان فاعلها ظالمًا ما لم
يُحدث توبة؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا
خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]؛
قال الإمام النووي: "إن إجماع الأمة
مُنعقِد على تحريم احتقار المسلمين والسخرية منهم"،
ومهما مورس على ردِّ فعل المستهزَأ به من محاولات
"الإعلاء" و"التعديل السلوكي"، فإن التوجيه "البشري"
لقابلية التعديل هو غالبًا مخيِّب للآمال، وقد ينقلب
على "البشر" الذين نظروا له على شكل سلوك ارتدادي، ما لم يربط
بخشية الله تعالى وطاعته وحبّه، لذلك كانت الوقاية باجتناب السخرية
خير من العلاج، وهي تبدأ منذ الطفولة المبكرة كما بينتُ في بداية هذا
الفصل، وهو ما ينطبق على تربيتنا وعلاقاتنا كبارًا وصغارًا في مُجتمعنا
الداخلي، وكذلك في علاقاتنا مع الأمم الأخرى.
وبذلك ننتقل للفصل الثاني من الكتاب وعنوانه:
رفض الاستهزاء، لماذا؟ وفيه نَنطلق من اتفاق العلوم الإنسانية في
الحضارة الغربية بمدارسها الفكرية المختلفة على أن السخرية ممارسة مسيئة
ومذمومة وسلوك غير مسكوت عنه، رغم تناقضهم وكَيلهم بمكيالين
على أرض الواقع.
والاستهزاء مرفوض:
أولاً: لأنه يتنافى مع مبدأ الكرامة الإنسانية؛ إذ الإنسان مكرَّم عند الله
تعالى، ولا يَجوز الهزْء به وتَحقيره، وحتى بالنسبة للذي يَستهزِئ، فهذا
فعل يحطُّ من كرامته هو ويَنتقص من مروءته، والإسلام يَربأ به أن يفعله.
ولأنه ثانيًا يَتنافى مع الحرية: فهو اعتداء سافر ومُتبجِّح على حرية الآخرين
، مع أنهم يمارسونه باسم حرية الرأي التي يتَّخذونها ذريعة للسخرية بالأفراد
والجماعات في مقدساتهم وقيَمِهم، ونُفصِّل الرد على ذلك من خلال
أن "كل حرية في الإسلام منوطة بمسؤولية".
وثالثًا لتعارضه مع التفكير القويم، فحسب المربي الغربي "جون ديوي":
التفكير هو الاهتمام بالعواقب؛ كما حصل عندما سخر بعض أبناء
تلك التربية الغربية برسولنا محمد ﷺ منذ سنوات خرجوا
من التفكير القويم حسب تعريفهم؛ إذ استهتروا بالعواقب، وهذا لا يمنع
أنهم خطَّطوا لأهداف معينة فأتت العواقب وبالاً عليهم، وإنَّ أسوأ أشكال
السخرية - وهو الاستِسخار - هو أكثرها بعدًا عن الاهتمام بالعواقب؛
قال تعالى: ﴿ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ
* وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ﴾ [الصافات: 12 - 14]،
قال المفسِّرون:
هو المبالغة في السخرية واستدعاؤها، وقال قتادة: "يَسخرون ويقولون:
إنها سُخرية؛ وفي لغتنا المعاصرة ينشرون السخرية ويروِّجون لها بعد تكلفها
والمُبالَغة بها؛ مما يضاعف الأذى الناجم ويصعد الانفعالات عند المستهزَأ
به؛ والاستسخار ممارسة جبانة ولكنها ليست غبية على الإطلاق، وهدفها
غالبًا دحض الحق مع الاختباء وراء تلك الدريئة التافهة في ظاهرها الخبيثة فيما تخفيه!
وأما الفصل الثالث ففيه مجالات السخرية وموضوعاتها مقسَّمة لمَجالين
تحت كل منها عدة عناوين، ولكل عنوان تفصيلاته وهما: السخرية العامة،
والسخرية من المقدسات والعقيدة "باتخاذ سبيل الله هزوًا"، وهذا
مضمونها - كما بينتُ - الاستهزاء بالحق وأهله أولاً وثانيًا وثالثًا و..،
فهي سلاح جبان يلجأ إليه من لا يصمد أمام الحق ويسعى لدحضه،
ولها جذور في تاريخ الأمم؛ كبني إسرائيل ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا
أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾
[المائدة: 24]، كما أنها أسلوب ينمُّ عن وقاحة الباطل وسوء أدبه؛
﴿ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾
[الأنفال: 32].
وأهمُّ أشكالها (والتي وردت مفصلة في الفصل الرابع): السخرية العملية
بشراء لهْوِ الحديث، والتي كثيرًا ما نمارسها نحن أنفسنا - مع الأسف - قال تعالى:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾
[لقمان: 6].
وهؤلاء بينَنا يُضلُّون أنفسهم قبل أن يُضلوا الآخرين، ناهيك عن إضاعة
الأموال والأبدان والعقول في شراء ذلك اللهو مهما كان شكله؛ مرئيًّا
أو مَسموعًا أو مقروءًا! ثم اتخاذ سبيل الله والسائرين فيها من رسله والأمم
التي اتبعتهم، والتشريعات التي تَنتظمهم، مجالاً للهزْء والسخرية المعلنة
أو الخفية، ومع عموم المعنى، أشرتُ إلى ما ورد في سبب نزول هذه الآية
الكريمة: وهو أن "النضر بن الحارث كان يشتري كتب أساطير الفرس
ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن ليجذبهم للجلوس والسماع
إليه"! وانظر كم يبدو هذا "النضر" مُتواضِعًا أمام الذين يشترون
لهوَ الحديث ليُضلُّوا عن سبيل الله اليوم!
وفي الفصل الخامس أوجزت: دوافع السخرية ودلالاتها في عشرة بنود؛
منها: مرض القلب والنفاق؛ ﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ
تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ﴾
[التوبة: 64]، والتكبُّر ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ﴾
[الصافات: 35، 36]،
والكفْر ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا
يَضْحَكُونَ ﴾
[الزخرف: 47].
والحقد، والظن السيئ، وآخرها التفاهة والسفاهة؛ حيث تشيع اليوم
جلسات السخرية ومُراسَلات الهزء، ويتم التباري في وسائلها، وهي قد
تولِّد أحقادًا أو ما هو أسوأ بين الأهل والرفاق، متناسين نهي رسول الله
حتى عن أبسط أشكالها حين قال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم:
((لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعبًا ولا جادًّا))، وفي رواية:
((لاعبًا جادًّا))؛ أي: يتصنَّع الجدَّ، وكأن الحبيب معنا، وكأنه كان
ﷺ يرى ما سنصل إليه من الإسفاف فيما يسمى:
"الكاميرا الخفية"، والتي تكذب على الناس أو تضعهم في موقف
يجعلهم مثار ضحك الآخرين مما يُصيبهم بالغضاضة، وبالاحتشاء
القلبي أحيانًا! وكان آخر ما ذكَّرنا به الحبيب في حجَّة الوداع
قوله: ((المؤمن حرام على المؤمن كحرمة هذا اليوم....))،
إلى أن قال: ((وحرام عليه أن يدفعه دفعة بغتة))!
وهذا ينتقل بنا إلى الفصل السادس وعنوانه:
الاستهزاء الغائي: إذا كانت السخرية بحد ذاتها غاية لقسم لا بأس به ممَّن
يُمارسونها، فهنالك كثر يفعلون ذلك لغايات أبعد من مجرد التسلية
والضحك، وهم يفعلون ذلك بأنفسهم أو بتحريض آخَرين، ويدَّعون أنهم
مُتَّزنون ومسؤولون عن تصرفاتهم، وتجد في هذا الفصل كيف يَعتمِد هذا
النوع من السخرية إلى حدٍّ بعيد على الإعلام المعاصر، وفيه بينتُ أن أهم
مقاصده من (الهزْء الغائي):
1 - توليد البلبلة وبثُّ الفرقة في المجموعة التي تُتَّخذ غرضًا للسخرية،
والتشكيك في المبادئ والمسلَّمات.
2 - قياس مدى تمسُّك الطرف الذي يُسخر منه بموضوع السخرية،
وكشف الرصيد الفكري والنفسي لهذا الموضوع (مِن ثوابت عقَدية
ومبادئ وقيم أخلاقية، واعتبارات مادية..)، وقياسها ودراستها لرسم
الخطوات التالية!
3 - ترسيخ الإحساس بالمهانة والقهر وصولاً إلى: تحريض انفعال الغضب
واستغلاله، أو توليد الإحباط والتقزُّم، والغاية بعد إضعاف الحالة المعنوية
والنفسية للضحية وتهييج ردود فعلها العشوائية، هي تبرير استهدافها
بالاعتداء والحرب الباردة وغير الباردة!
والفصل السابع وهو الأخير هو مِن أهمِّ الفُصول؛ ففيه بيان:
عواقب السخرية وكيف نُواجِهها!
وتحدثت فيها عن العواقب الأُخرويَّة والدنيوية؛ مثل إحاقة الاستهزاء
بالمستهزئ؛ ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا
مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأنعام: 10]، وندم الساخرين الهازئين؛
قال تعالى: ﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [يس: 30]؛ أي: يا ويلاً ويا تندُّمًا، ولات حينَ تندُّم..،
ومثل العذاب المهين؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾
[لقمان: 6]، دون أن ننسى أن الله تعالى قد يُملي للساخرين،
وهي أحكام مؤجَّلة؛ ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ [الرعد: 32]،
وإن الأخذ بعد الإملاء أشد تنكيلاً لو يعلمون!
وفي الفصل المزيد عن الوقاية من السخرية وعلاجها، وكيفية التعامل
مع الساخرين باختلاف مضامين سخريتهم.
وختمتُ الكتاب بخاتمة بعنوان: لماذا السخرية؟ خلصت فيها إلى أن
السخرية والاستهزاء في مجتمعنا المسلم وبوجود الوازع الاجتماعي هي آثام
بالتعريف النبوي للإثم، ولكنْ كثيرون يجهلون ذلك أو يتجاهلونه،
وأنهيت بقول الإمام الشوكاني في قول الله تعالى: ﴿ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ
مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ
مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الشعراء: 5، 6]؛ حيث بيَّن أن الاستهزاء أشد
من الإعراض والتكذيب، "وهو مستلزم لهما، وفي هذا وعيد شديد..".
________________________________________
[1] - تأليف د. غُنيَة عبدالرحمن النحلاوي، ونُشر الكتاب سنة 2008 في 96 صفحة، دار الفكر المعاصر.
الألوكة الشرعية