العبد الفقير إلى الله
عضو ذهبي
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
*********************************************
أثر الأكثرية في تقوية قول ما
(تارك الصلاة كسلا أنموذجا)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فما أسماه الشوكاني (سوط هيبة الجمهور) له اعتبار وتأثير في نفوس المشتغلين بالعلم منذ قديم الزمان، ويشتد ذلك في مضايق المسائل التي تتقارب أدلتها، فيكون اللجوء أحيانا لاعتبار كثرة القائلين بقول مقصودا به تضعيف القول الآخر.
ولأن إيراد هذه المسألة (تارك الصلاة كسلا) على الطريقة المعتادة من إيراد الأقوال والأدلة ومناقشتها والترجيح، ليس فيه كبير فائدة؛ لأن المسألة مطروقة في كثير من الكتب الفقهية قديما وحديثا، وبما أن أثر اختيار الجمهور لقول من الأقوال هو من أكثر الأمور المشكلة لطلاب العلم الذين ينظرون في هذه المسألة، ويثير حيرتهم قوة الأدلة في المسألة وحكاية الإجماع فيها، مع خلاف جمهور المذاهب الأربعة لمفهومها الظاهر؛ فسيكون تناولي لهذه المسألة من هذا الجانب؛ لارتباطها بأبواب الفقه كلها، مع إلمام مختصر بأبرز أدلة مسألة كفر تارك الصلاة؛ إذ ليس المقصود تحريرها واستيعابها، أو تناول ما يتفرع منها؛ كضابط الترك المكفر، بل المقصود تحرير الاعتبار لأثر قول الجمهور في الترجيح.
أولا:
التقوي بقول الجمهور في الاستدلال مشهور في كتب الفقهاء، وقد أورد القرافي مسألة، وذكر احتجاج أصحاب قول بأن قولهم قول الجمهور، وأن (الحق لا يفوت الجمهور غالبا)، وأجاب عن ذلك: بأن القطع بصحة الشيء إنما يحصل بالإجماع؛ لأن مجموع الأمة معصوم، ولا يتحقق هذا في الجمهور، ثم قال: "الظاهر أن الحق معهم [يعني: الجمهور] والظاهر إذا عارضه القطع [بمدلول الدليل] قطعنا ببطلان ذلك الظهور" [الفروق 2/117].
ومناط المسألة: أن تعدد العقول مظنة للقرب من الصواب؛ لأن العقل آلة الفهم، والناتج عن هذه الآلة إذا تكرر على آلات كثيرة متفاوتة مع نتيجة واحدة، كانت هذه النتيجة أقرب للصواب مما ينتج عن الآلات الأقل.
إلا أن الإشكال يرد على قول الجمهور حينما يكون هناك خضوع لبعض العوارض التي تعرض على العقل فتؤثر على عمله، فمتى تجرد العقل عن العوارض والمؤثرات، كان وصوله للصواب أقوى وأقرب، وإذا تعددت العقول مع نفس النتيجة كان هذا آكد لها، ومتى تعرض العقل للعوارض والمؤثرات، لم يكن تعدد العقول دالا على القرب من الصواب، وإنما تكون دلالته على أثر تلك العوارض والمؤثرات في الفهم أقوى وأقرب، وتأثر الفقيه في ترجيحه بالعوارض التي تعرض عليه أمر لا يجحده أحد، كما أنه ليس طعنا في دينه ولا علمه؛ لأن تأثيرها في الأحوال المعتادة لا يكون بإرادته غالبا و {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.
ثانيا:
السؤال الذي يتكرر كثيرا عند تناول مسألة تارك الصلاة: كيف يخالف جمهور العلماء إجماع أصحاب محمد ﷺ، كما قال عبد الله بن شقيق العقيلي: "كان أصحاب محمد ﷺ لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة". فلو كان هذا صحيحا لما خالفوه؟
والجواب: أن هذا الأثر لا إشكال في صحة إسناده؛ فقد صححه النووي، وابن دقيق العيد، والزيلعي، والعراقي، وابن حجر، وغيرهم، ولم يطعن أحد ممن يعتبر بقوله في تضعيف الأثر، بل إن الحاكم صححه من قول أبي هريرة، والجمهور على أنه من قول عبد الله بن شقيق.
ثم إن عبد الله بن شقيق (ت:108) تابعي بصري، وقد نقل علماء البصرة الإجماع في المسألة نفسها؛ كالحسن البصري (ت:110) [أخرجه الخلال في كتاب السنة (4/142) بإسناد صحيح] وأيوب السختياني البصري (ت:131) [أخرجه المروزي (2/925) بإسناد صحيح] ؛ فهذه كلها دالة على أن علماء البصرة قد استقر عندهم إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة.
وحمل هذه الإجماعات على كفر غير مخرج من الملة، أو كفر الجحود: لا يستقيم؛ لأن الناظر في السياق التاريخي يعلم سبب خروج هذا الكلام؛ فالكوفة -جيران البصرة- محل لأصحاب الرأي، وهم الذين انتشر فيهم الإرجاء، كما هو معلوم، وقد نبغت بدعة الإرجاء في أواخر عصر الصحابة، كما قال ابن تيمية.
وتأويل ما نقله علماء البصرة من إجماع هو نزع للكلام من سياقه التاريخي، وإخراج له عن مضمونه الذي ورد فيه ردا على جيرانهم من أهل الكوفة، وهو أنه إذا تقرر أن ترك الصلاة -من غير جحود- كفر مخرج من الملة؛ فإنه يلزم أنه يكون العمل من الإيمان، خلافا للمرجئة.
ولا يلزم من عدم تكفير تارك الصلاة أن يكون القائل مرجئا ما دام مقرا بأن العمل من الإيمان؛ لأن الأعمال -غير الصلاة- كثيرة، وإن كانت الصلاة أهمها، فإذا علم أن كفر جاحد وجوب الصلاة لم يكن محل خلاف ولا نزاع، علم أن هذا الإجماع إنما يراد به تكفير تارك الصلاة من غير جحود؛ لأنه هو محل النزاع مع المرجئة في ذلك الوقت.
ولا شك أن أقوى رد على من أخرج العمل من مسمى الإيمان إنما يكون بتقرير كفر تارك الصلاة إجماعا، فإذا تقرر هذا الفرع بالإجماع بطل الأصل المبتدع الذي ابتدعته المرجئة؛ لأن النصوص يمكن تأويلها. وتقرير تكفير تارك الصلاة من غير جحود يقطع النزاع ويبطل أصل قولهم.
وقد جاء تقرير إجماع الصحابة عن أئمة أجلاء جمعوا بين الفقه والاطلاع الواسع على الآثار؛ كإسحاق بن راهويه، وكمحمد بن نصر المروزي؛ الذي قال عنه الخطيب البغدادي: "كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم" [تاريخ بغداد 4/508]، وقد حكى أنه قول جمهور السلف: جماعة، كابن تيمية؛ وابن رجب، ونقل المنذري عن ابن حزم أنه لا يعلم مخالفا من الصحابة في كفر تارك الصلاة.
فما حدث بعدهم من مخالفة إنما هو خلاف من أتباع الأئمة الثلاثة، الذين يقرون بأن ظواهر الأدلة على كفر تارك الصلاة، إلا أنهم خالفوا لأجل أدلة أخرى أوجبت -في ظنهم- تأويل ظاهر أحاديث تكفير تارك الصلاة.
ولا شك أن التقوي بقول الجمهور إذا حصل؛ فأحق من يتقوى به قول صحابة رسول الله ﷺ، الموافق لظواهر النصوص؛ لأنه إن كان إجماعا فهو حجة بلا خلاف، وإن كان قول جمهورهم فهو أولى وأقرب للصواب. وهم أعلم الناس بفهم نصوص القرآن والسنة، كما أنهم أبعد عن العوارض والمؤثرات التي ترد على من بعدهم؛ ، ومتى أقر المخالف بأن ظواهر النصوص تدل على قول، ولم يعلم من الصحابة من يؤول هذه الظواهر ويبينها للأمة، علم أن التأويل لهذه النصوص ليس في محله؛ لأنه اتهام لهم بكتمان العلم، أو تجهيل لهم لعدم معرفتهم تأويل النصوص، وهذا لا شك أنه باطل.
وأما من جاء بعدهم فقد كثرت عليهم العوارض والمؤثرات، ومن ذلك:
- انتشار البدع التي ينقض بعضها بعضا، والتي يكون من تفريعاتها بعض المسائل الفقهية، وقد يتأثر من لم يقرر هذه البدعة بالتفريع دون أن يعلم.
- انتشار التقليد؛ فإن اعتبار المقلدين للأئمة الأربعة هم جمهور الأمة: غلط لا يخفى؛ إذ المقلد لا عبرة بخلافه، وقوله إنما هو تكرار لقول إمامه، والعبرة بالأئمة المجتهدين.
- كثرة العوارض والمؤثرات على المجتهد في الزمن المتأخر؛ فإنه لو تخلص من تأثير نشأته على قول ما، فعليه أن يتخلص من مخالفة مشايخه أو أقرانه، ثم عليه أن يتخلص من الشبهات التي تحيط بأصل المسألة أو فرعها، سواء مما كتب في الكتب أو لم يكتب، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تخفى.
وهذه العوارض وغيرها كانت أقل بكثير في القرون المفضلة؛ ما يجعل قول الجمهور فيهم أقرب مظنة للصواب.
ثالثا:
مما يحتج به بعض الفقهاء ويشكل على من ينظر في المسألة: حكاية الإجماع العملي للمسلمين بعدم إقامة أحكام الردة على تاركي الصلاة مع كثرتهم؛ كما نقله ابن أبي زيد القيرواني (ت:386) وابن قدامة (ت:620).
والجواب عن هذا: أن ترك الصلاة من الكفر الخفي؛ لأن عدم الصلاة في المسجد لا يدل على ترك الصلاة، كما أن تأخير الصلاة عن وقتها لا يلزم منه ترك الصلاة؛ فالحكم بالكفر غير ممكن غالبا؛ لصعوبة التحقق من تركه للصلاة؛ إذ الترك أمر عدمي يصعب التحقق منه على وجه اليقين لعامة الناس، وعلم الناس بترك الرجل للصلاة لا يعني قدرتهم على إثباته أمام القضاء؛ لاحتياج ذلك إلى طرق الإثبات المعتبرة قضاء، وإثباته أمام القضاء في غاية الصعوبة؛ لأنه يمكن لكل أحد يتهم بترك الصلاة ادعاء النسيان مثلا؛ إذ الناسي غير مؤاخذ، فلا يستقيم حكاية الإجماع على عدم إقامة حد الردة؛ لأنه متوقف على ثبوت الترك للصلاة أمام القضاء في أزمان عديدة، مع عدم إقامة حد الردة على تارك الصلاة، وهذا الثبوت لا يمكن لأحد أن يدعيه، فلا يستقيم حكاية الإجماع على ترك حكم الردة عليه، وكما أنه لا يجوز للقاضي الحكم بعلمه، فلا يجوز للناس تطبيق أحكام الردة بأنفسهم دون إمام؛ فلا يستقيم ترتيب حكم على عدم فعلهم لما لا يجوز لهم فعله أصلا.
ثم إن تاركي الصلاة بين المسلمين هم ممن يظهر الإسلام ويلتزم شرائعه ظاهرا، ومن كان هذا حاله فهو من المنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وكان النبي ﷺ يصلي عليهم أولا، ولم ينه أصحابه عن الصلاة عليهم، مع علمه بهم، وكذا كان حذيفة يعلم بعض أعيان المنافقين، ولا ينهى عن الصلاة والترحم عليهم، ولم يأمر بتطبيق أحكام الكفار عليهم؛ كمنع التوارث، والتفريق بين الأزواج ونحوه، وإنما يكتفي بتركه للصلاة عليهم، مع علمه بكفرهم باطنا بإخبار النبي ﷺ له؛ فالصلاة جائزة على كل من أظهر الإسلام ولو كان كافرا في حقيقة الحال، لمن لم يعلم ذلك منه.
فهذا الإجماع الذي حكاه ابن أبي زيد وابن قدامة: إن قصد به فعل عامة الناس من عدم ترك الصلاة على تارك الصلاة، فلا إشكال في ذلك؛ لأنه هو الموافق للسنة وعمل الصحابة تجاه المنافقين -الذين يبطنون الكفر والشرك، ويظهرون الإسلام-؛ حيث كانوا يصلون عليهم، وتجري عليهم أحكام المسلمين، فلا ينقض هذا القول كفر تارك الصلاة.
وإن قصد به حكم القضاء، فهذا متوقف على نقل يثبت ثبوت ترك الصلاة أمام القضاء في أزمان مختلفة، ثم لا يحكم عليهم بالردة، واشتهار ذلك بين علماء المسلمين دون نكير، وهذا يستحيل إثباته؛ فهذا الإجماع إما أنه لا يثبت أصلا إن قصد به حكم القضاء، وإما أنه ليس فيه دلالة إن قصد به عمل عامة الناس.
رابعا:
ذكر ابن تيمية وابن حجر العسقلاني أن أجود وأقوى ما استدل به القائلون بعدم كفر تارك الصلاة قول النبي ﷺ، من حديث عبادة بن الصامت: "خمس صلوات افترضهن الله عز وجل، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن، كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه". أخرجه أبو داود، وصححه ابن عبد البر [التمهيد 23/288]، واستدلوا بأنه جعل تارك الصلاة تحت المشيئة، ولو كان كافرا لم يكن تحت المشيئة.
والجواب على هذا -كما قرره محمد بن نصر المروزي، وابن تيمية، وغيرهم-: أن الحديث يراد به المحافظة على حقوق الصلاة؛ مثل الوضوء والوقت ونحوهما مع أدائه للصلاة؛ لأنه لو كان تاركا للصلاة بالكلية لم يكن للتنصيص على المحافظة على حدود الصلاة وحقوقها -كالوضوء والخشوع والركوع- أي معنى، لكنه لما كان مؤديا للأصل جاء الكلام في محاسبته على حقوق الصلاة المرتبطة بها، وأنه تحت المشيئة إذا أضاع هذه الحقوق، فترتيب المشيئة متوقف على عدم الإحسان في هذه الأمور ، لا على ترك الصلاة.
وأما سائر الأدلة لمن لم يكفر تارك الصلاة فهي أدلة عامة، حتى قال عنها ابن تيمية: "وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها؛ فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جوابا لهم عن التارك" [مجموع الفتاوى 7/613] ، وهذا فيه جواب عن قول النووي حينما قال: "وأما الجواب عما احتج به من كفره من حديث جابر وبريدة، ورواية شقيق؛ فهو أن كل ذلك محمول على أنه شارك الكافر في بعض أحكامه، وهو وجوب القتل، وهذا التأويل متعين للجمع بين نصوص الشرع وقواعده التي ذكرناها"[المجموع شرح المهذب 3/17]؛ حيث يقصد بالنصوص التي أوجبت تأويل أحاديث تكفير تارك الصلاة؛ حديث: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله، دخل الجنة"[صحيح مسلم]، ووجه الاستدلال أنه إذا تقرر أن تارك الصلاة يعلم أنه لا إله إلا الله، فهو من أهل الجنة وفقا لهذا الحديث، فهذا دال على أن الأحاديث الدالة على كفره لا تعني خروجه من الملة، فيقال: وجاحد وجوب الصلاة يعلم أنه لا إله إلا الله، فهو من أهل الجنة وفقا للحديث! فما يخرج جاحد وجوب الصلاة من هذا الحديث يمكن به إخراج تارك الصلاة أيضا؛ فدل هذا على عدم صحة هذا التأويل لظواهر النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة.
خامسا:
قد يقول قائل: إن اعتبار العوارض المؤثرة على قول الجمهور لا ضابط له، وكل من خالف الجمهور يمكن أن يدعيه!
والجواب: أن هذا الاعتبار إنما يكون في نفس المرجح المتجرد لطلب الحق؛ لأن الترجيح أمر عقلي بتغليب شيء على شيء، وليست هذه العوارض دليلا في ذات المسألة؛ لكي يطلب ضبطها كضبط الأدلة.
وهذه العوارض تفهم من خلال السياق التاريخي للمسألة، فإذا وجد المرجح أن جمهور العلماء كانوا في وقت على قول، ثم تحول الجمهور إلى قول آخر، علم وجود عارض مؤثر على نظرهم، فينظر في هذا العارض: هل هو لبروز دليل أو أدلة لم تظهر وجه دلالتها سابقا، أو لأن المسألة ارتبطت بأصل عقدي، أو لأن عددا من الأئمة المشهورين أخذوا بهذا القول فنصره أصحابه من بعدهم، إلى غير ذلك من المؤثرات.
ولا شك أن الأصل اتباع الدليل، وإنما يحتاج لقول الجمهور إذا تقاربت الأدلة أو اشتبهت على المرجح وتعددت الأفهام للنصوص، فقول الجمهور حينئذ يكون من عوامل الترجيح؛ لأن غلبة أفهام أكثر العلماء على نص أولى من فهم القلة، وإذا رأى المرجح وجود عارض مؤثر على قول جمهور العلماء -إذا تأكد من تحقق وصف الجمهور فيه- طابت نفسه بمخالفتهم؛ لأن قول الجمهور ليس حجة يجب اتباعها.
ثم لا بد أن يعلم أن القول بعدم كفر تارك الصلاة لا يناقض ما أجمع عليه أهل السنة من تكفير تارك جنس العمل؛ لأن الصلاة نوع من أنواع العمل، ولا يلزم من تاركها أن يترك الصيام أو الصدقة، أو قراءة القرآن أو الدعاء، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي يرجو بها ثواب الله، كما هو مشاهد ممن يترك الصلاة؛ فهذا مؤد لبعض العمل، وإن كان تاركا لأهمه، وهو الصلاة.
فعلى قول من لا يكفر تارك الصلاة، فإنه ما دام مؤديا لبعض الأعمال الصالحة التي يرجو بها ثواب الله -ولو لم يكن منها الصلاة-، فإنه لا يكفر، فإن لم يؤد عملا صالحا يرجو به ثواب الله بالكلية، فهو الذي حكى العلماء إجماع أهل السنة على تكفيره.
وأما على قول من يقول بكفر تارك الصلاة -كما هو إجماع الصحابة، وقول جمهور السلف-، فإن الصلاة هي رأس الأعمال الصالحة وأوجبها، فمن تركها لم ينفعه ما دونها من الأعمال.
وقد قرر ذلك أئمة أهل السنة، كما جاء في مسائل حرب الكرماني [3/1015] عن إسحاق بن راهويه أنه قال: "غلت المرجئة حتى صار من قولهم: إن قوما يقولون: من ترك المكتوبات، وصوم رمضان، والزكاة، والحج، وعامة الفرائض من غير جحود بها؛ إنا لا نكفره، يرجأ أمره إلى الله بعد إذ هو مقر؛ فهؤلاء المرجئة الذين لا شك فيهم"، فجعل عدم التكفير لمن ترك عامة الفرائض: من قول أهل الإرجاء الذين لا شك فيهم، وقال ابن تيمية: "الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، كما دل عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه السلف، فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا" [شرح العمدة 2/81].
والله أعلم
ثالثا:
مما يحتج به بعض الفقهاء ويشكل على من ينظر في المسألة: حكاية الإجماع العملي للمسلمين بعدم إقامة أحكام الردة على تاركي الصلاة مع كثرتهم؛ كما نقله ابن أبي زيد القيرواني (ت:386) وابن قدامة (ت:620).
والجواب عن هذا: أن ترك الصلاة من الكفر الخفي؛ لأن عدم الصلاة في المسجد لا يدل على ترك الصلاة، كما أن تأخير الصلاة عن وقتها لا يلزم منه ترك الصلاة؛ فالحكم بالكفر غير ممكن غالبا؛ لصعوبة التحقق من تركه للصلاة؛ إذ الترك أمر عدمي يصعب التحقق منه على وجه اليقين لعامة الناس، وعلم الناس بترك الرجل للصلاة لا يعني قدرتهم على إثباته أمام القضاء؛ لاحتياج ذلك إلى طرق الإثبات المعتبرة قضاء، وإثباته أمام القضاء في غاية الصعوبة؛ لأنه يمكن لكل أحد يتهم بترك الصلاة ادعاء النسيان مثلا؛ إذ الناسي غير مؤاخذ، فلا يستقيم حكاية الإجماع على عدم إقامة حد الردة؛ لأنه متوقف على ثبوت الترك للصلاة أمام القضاء في أزمان عديدة، مع عدم إقامة حد الردة على تارك الصلاة، وهذا الثبوت لا يمكن لأحد أن يدعيه، فلا يستقيم حكاية الإجماع على ترك حكم الردة عليه، وكما أنه لا يجوز للقاضي الحكم بعلمه، فلا يجوز للناس تطبيق أحكام الردة بأنفسهم دون إمام؛ فلا يستقيم ترتيب حكم على عدم فعلهم لما لا يجوز لهم فعله أصلا.
ثم إن تاركي الصلاة بين المسلمين هم ممن يظهر الإسلام ويلتزم شرائعه ظاهرا، ومن كان هذا حاله فهو من المنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وكان النبي ﷺ يصلي عليهم أولا، ولم ينه أصحابه عن الصلاة عليهم، مع علمه بهم، وكذا كان حذيفة يعلم بعض أعيان المنافقين، ولا ينهى عن الصلاة والترحم عليهم، ولم يأمر بتطبيق أحكام الكفار عليهم؛ كمنع التوارث، والتفريق بين الأزواج ونحوه، وإنما يكتفي بتركه للصلاة عليهم، مع علمه بكفرهم باطنا بإخبار النبي ﷺ له؛ فالصلاة جائزة على كل من أظهر الإسلام ولو كان كافرا في حقيقة الحال، لمن لم يعلم ذلك منه.
فهذا الإجماع الذي حكاه ابن أبي زيد وابن قدامة: إن قصد به فعل عامة الناس من عدم ترك الصلاة على تارك الصلاة، فلا إشكال في ذلك؛ لأنه هو الموافق للسنة وعمل الصحابة تجاه المنافقين -الذين يبطنون الكفر والشرك، ويظهرون الإسلام-؛ حيث كانوا يصلون عليهم، وتجري عليهم أحكام المسلمين، فلا ينقض هذا القول كفر تارك الصلاة.
وإن قصد به حكم القضاء، فهذا متوقف على نقل يثبت ثبوت ترك الصلاة أمام القضاء في أزمان مختلفة، ثم لا يحكم عليهم بالردة، واشتهار ذلك بين علماء المسلمين دون نكير، وهذا يستحيل إثباته؛ فهذا الإجماع إما أنه لا يثبت أصلا إن قصد به حكم القضاء، وإما أنه ليس فيه دلالة إن قصد به عمل عامة الناس.
رابعا:
ذكر ابن تيمية وابن حجر العسقلاني أن أجود وأقوى ما استدل به القائلون بعدم كفر تارك الصلاة قول النبي ﷺ، من حديث عبادة بن الصامت: "خمس صلوات افترضهن الله عز وجل، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن، كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه". أخرجه أبو داود، وصححه ابن عبد البر [التمهيد 23/288]، واستدلوا بأنه جعل تارك الصلاة تحت المشيئة، ولو كان كافرا لم يكن تحت المشيئة.
والجواب على هذا -كما قرره محمد بن نصر المروزي، وابن تيمية، وغيرهم-: أن الحديث يراد به المحافظة على حقوق الصلاة؛ مثل الوضوء والوقت ونحوهما مع أدائه للصلاة؛ لأنه لو كان تاركا للصلاة بالكلية لم يكن للتنصيص على المحافظة على حدود الصلاة وحقوقها -كالوضوء والخشوع والركوع- أي معنى، لكنه لما كان مؤديا للأصل جاء الكلام في محاسبته على حقوق الصلاة المرتبطة بها، وأنه تحت المشيئة إذا أضاع هذه الحقوق، فترتيب المشيئة متوقف على عدم الإحسان في هذه الأمور ، لا على ترك الصلاة.
وأما سائر الأدلة لمن لم يكفر تارك الصلاة فهي أدلة عامة، حتى قال عنها ابن تيمية: "وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها؛ فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جوابا لهم عن التارك" [مجموع الفتاوى 7/613] ، وهذا فيه جواب عن قول النووي حينما قال: "وأما الجواب عما احتج به من كفره من حديث جابر وبريدة، ورواية شقيق؛ فهو أن كل ذلك محمول على أنه شارك الكافر في بعض أحكامه، وهو وجوب القتل، وهذا التأويل متعين للجمع بين نصوص الشرع وقواعده التي ذكرناها"[المجموع شرح المهذب 3/17]؛ حيث يقصد بالنصوص التي أوجبت تأويل أحاديث تكفير تارك الصلاة؛ حديث: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله، دخل الجنة"[صحيح مسلم]، ووجه الاستدلال أنه إذا تقرر أن تارك الصلاة يعلم أنه لا إله إلا الله، فهو من أهل الجنة وفقا لهذا الحديث، فهذا دال على أن الأحاديث الدالة على كفره لا تعني خروجه من الملة، فيقال: وجاحد وجوب الصلاة يعلم أنه لا إله إلا الله، فهو من أهل الجنة وفقا للحديث! فما يخرج جاحد وجوب الصلاة من هذا الحديث يمكن به إخراج تارك الصلاة أيضا؛ فدل هذا على عدم صحة هذا التأويل لظواهر النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة.
خامسا:
قد يقول قائل: إن اعتبار العوارض المؤثرة على قول الجمهور لا ضابط له، وكل من خالف الجمهور يمكن أن يدعيه!
والجواب: أن هذا الاعتبار إنما يكون في نفس المرجح المتجرد لطلب الحق؛ لأن الترجيح أمر عقلي بتغليب شيء على شيء، وليست هذه العوارض دليلا في ذات المسألة؛ لكي يطلب ضبطها كضبط الأدلة.
وهذه العوارض تفهم من خلال السياق التاريخي للمسألة، فإذا وجد المرجح أن جمهور العلماء كانوا في وقت على قول، ثم تحول الجمهور إلى قول آخر، علم وجود عارض مؤثر على نظرهم، فينظر في هذا العارض: هل هو لبروز دليل أو أدلة لم تظهر وجه دلالتها سابقا، أو لأن المسألة ارتبطت بأصل عقدي، أو لأن عددا من الأئمة المشهورين أخذوا بهذا القول فنصره أصحابه من بعدهم، إلى غير ذلك من المؤثرات.
ولا شك أن الأصل اتباع الدليل، وإنما يحتاج لقول الجمهور إذا تقاربت الأدلة أو اشتبهت على المرجح وتعددت الأفهام للنصوص، فقول الجمهور حينئذ يكون من عوامل الترجيح؛ لأن غلبة أفهام أكثر العلماء على نص أولى من فهم القلة، وإذا رأى المرجح وجود عارض مؤثر على قول جمهور العلماء -إذا تأكد من تحقق وصف الجمهور فيه- طابت نفسه بمخالفتهم؛ لأن قول الجمهور ليس حجة يجب اتباعها.
ثم لا بد أن يعلم أن القول بعدم كفر تارك الصلاة لا يناقض ما أجمع عليه أهل السنة من تكفير تارك جنس العمل؛ لأن الصلاة نوع من أنواع العمل، ولا يلزم من تاركها أن يترك الصيام أو الصدقة، أو قراءة القرآن أو الدعاء، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي يرجو بها ثواب الله، كما هو مشاهد ممن يترك الصلاة؛ فهذا مؤد لبعض العمل، وإن كان تاركا لأهمه، وهو الصلاة.
فعلى قول من لا يكفر تارك الصلاة، فإنه ما دام مؤديا لبعض الأعمال الصالحة التي يرجو بها ثواب الله -ولو لم يكن منها الصلاة-، فإنه لا يكفر، فإن لم يؤد عملا صالحا يرجو به ثواب الله بالكلية، فهو الذي حكى العلماء إجماع أهل السنة على تكفيره.
وأما على قول من يقول بكفر تارك الصلاة -كما هو إجماع الصحابة، وقول جمهور السلف-، فإن الصلاة هي رأس الأعمال الصالحة وأوجبها، فمن تركها لم ينفعه ما دونها من الأعمال.
وقد قرر ذلك أئمة أهل السنة، كما جاء في مسائل حرب الكرماني [3/1015] عن إسحاق بن راهويه أنه قال: "غلت المرجئة حتى صار من قولهم: إن قوما يقولون: من ترك المكتوبات، وصوم رمضان، والزكاة، والحج، وعامة الفرائض من غير جحود بها؛ إنا لا نكفره، يرجأ أمره إلى الله بعد إذ هو مقر؛ فهؤلاء المرجئة الذين لا شك فيهم"، فجعل عدم التكفير لمن ترك عامة الفرائض: من قول أهل الإرجاء الذين لا شك فيهم، وقال ابن تيمية: "الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، كما دل عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه السلف، فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا" [شرح العمدة 2/81].
والله أعلم