العبد الفقير إلى الله
عضو ذهبي
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
*********************************************
التحذير من شهوات الفكر المهلكة
الحمد لله الذي {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد : 27]، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد التواب، وعلى كل من زجر النفس عن غيها وثاب.
أما بعد:
قال الحسن البصري رحمه الله: والله ما جالس القرآن أحد؛ إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان،
قال الله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء : 82]. انتهى.
وصدق رحمه الله، ومصداق قوله مسطور في الكتاب,
في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44]،
وقوله -جل وعز-: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
فبين -جل وعلا- أن القرآن هدى وشفاء لصنف، وعمى وخسارة لصنف آخر, فخص -جل في علاه- المؤمنين بالانتفاع بهذا الكتاب العظيم, ونص على أن الذين لا يؤمنون به يزيدهم خسارة، وهو عليهم عمى, والإيمان وعدمه هنا ليس هو مطلق الإيمان, الذي يتصف به كل من انتسب إلى الإسلام, بل هو إيمان حقيقي من جنس إيمان المتقين، كما صرح بذلك ربنا -عز وجل- في أول سورة البقرة،
فقال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
ثم بين
-جل وعز- صفتهم بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 3، 4].
فهذا هو الإيمان المشروط للانتفاع بالقرآن, وهو قول وعمل, ففيه التصديق والإقرار بالغيب وأمور الآخرة, والعمل متمثلا في الإنفاق وإقامة الصلاة, وهما لا يقعان من مؤمن إلا بنية وإرادة، منشؤهما المحبة، وهي أصل عمل القلب.
وأما من آمن إيمانا مجملا كالذي يولد بين أبوين مسلمين، ولم يتعرف على حقائق الإيمان, أو يكون حديث عهد بالإسلام، ولما يحقق الإيمان المشروط للانتفاع بالقرآن, فأمثال هؤلاء لو شككوا لشكوا؛ لعدم وجود ما يدرأ الريب عنهم, من علم القلب ومعرفته ومحبته ويقينه بدينه, فهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا؛ دخلوا الجنة, وإن ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم, فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب, وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق دون أن يعلموا, فليحذر المسلم من السير خلف شهواته الفكرية, وإطلاق العنان لعقله الضعيف, ليبحر فيما ليس له به علم, متتبعا الشبهات والمتشابهات مما يحسبه دلائل عقلية, وحقائق قطعية, وما هي إلا سراب يحسبه الظمآن ماء, وهو خلي عما يعصمه منها.
فهذا الصنف بعيد كل البعد عن الانتفاع بالهدي القرآني, والنور الرباني؛ لخلوه من الإيمان المعين على فهم القرآن، والازدياد به إيمانا على إيمانه؛ ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يتعلمون الإيمان قبل تعلم القرآن، ولهذا ثبت الإيمان في قلوبهم، فرضي الله عنهم ورضوا عنه, فعن جندب البجلي -رضي الله عنه- قال: كنا مع نبينا ﷺ فتيانا حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فنزداد به إيمانا، فإنكم اليوم تعلمون القرآن قبل الإيمان. [أخرجه ابن ماجه في سننه، والطبراني في الكبير بسند صحيح].
فالمقصود بتعلم الإيمان: أي: اليقين بما جاء عن الله ورسوله -ﷺ- والاعتصام بذلك, والقطع بأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل أبدا, وعدم معارضة هذا الأصل بغيره، كائنا ما كان, والجزم بأن علوم الأولين والآخرين العقلية النافعة لا يمكن أن تغادر القرآن طرفة عين، أو أقل من ذلك, فإذا تحقق ذلك, يصبح المؤمن مهيأ لتعلم القرآن، وفهم ما فيه من معان تحيا بها القلوب السليمة، التي ليس بينها وبين الحق سوى إدراكه.
وهذا اليقين لا يمكن تحصيله إلا بتحصيل أسبابه, مثل سؤال الله تعالى الهداية الخاصة, ومباشرة أهل الإيمان، والاقتداء بهم في الأقوال والأعمال, ثم حفظ العقل وجعله في حرز عن مصادر التلقي الفاسدة, فأعظم الخلل ينشأ -وهذا من أصول الضلال- من الاعتداد بالنفس, والتغرير بالعقل في قراءات مفسدة لفطرته السليمة, وللعقل شهواته فينغمس فيها حتى تنتكس الفطرة، وتتبدل اليقينيات عند المرء, فإذا اعتقد ما ليس بيقين على أنه يقين قطعي وهو مظنون, حينئذ تكثر الإشكالات بين هذا اليقين المظنون مع اليقين الحقيقي, فيسل الشيطان سكين الشبهات والمتشابهات؛ لذبح اليقين الحقيقي عند هذا المسكين وتلك المسكينة الغرقاء في شهواتهم العقلية, المغلفة بأسماء شيطانية, كحرية الفكر, أو الانفتاح على الثقافات, أو الجراءة في النقد.
فهنا يأتي دور الإيمان الصادق, فمن كان ضعيف الإيمان أو حديث الإسلام, فلن يصمد أمام شهوة عقله, ولا أمام حيل الشيطان وألاعيبه الماكرة, وأما من تعلم الإيمان وتيقن بدين الإسلام, وعافاه الله من شهوات العقول في تتبع الشبهات والمتشابهات، فهذا الجدير بالنجاة من هذه المهالك.
ولهذا شدد السلف الصالح على ترك الأهواء ومجادلة أهلها؛ لعلمهم بأن هذه الأهواء بحار لا سواحل لها, فنهوا، رحمهم الله, عن تتبع المتشابهات, ونهوا عن إجابة أصحاب الشبهات ومناظرتهم, فكانوا يردون الباطل بالحق فيدمغه، فإذا هو زاهق, دون الاسترسال في تفنيد الشبهات وتقصي الرد عليها؛ لئلا يكون ذلك وسيلة لنشرها وبثها بين الناس, فما أعقلهم -رحمهم الله- فقد علموا بأن العقول تتفاوت، والأفهام لا تتساوى, فربما أجابوا عن شبهة بإيقاظ أخرى, أو قاموا بدحضها عن إنسان دون إنسان, فوقفوا عند الأصل القرآني برد الشبهات والمتشابهات بالمحكمات, واستدلوا على من ينازع فيها، ويجادل بأنه زائغ أو شاك, ولا دواء لهما إلا لطف الله تعالى بهما, فالهوى ليس له دواء.
عن سالم بن أبي حفصة، قال: (إن من قبلكم بحثوا، ونقروا حتى تاهوا).
ويقول الإمام مالك بن أنس -رحمه الله-: (يلبسون على أنفسهم، ثم يطلبون من يعرفهم).
وقال ابن شبرمة: (من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسؤول أن يجيب فيها).
وقال الشعبي: (لو أدرك هؤلاء الآرائيون النبي ﷺ لنزل القرآن كله يسألونك يسألونك).
عن ابن عباس قال: (ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله ﷺ؛ ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة، حتى قبض... ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم).
نقل هذه الآثار الذهبية ابن بطة -رحمه الله- ثم قال: (فاتقوا الله يا معشر المسلمين، وانتهوا عن السؤال، والتنقير، والبحث عما يشكك اليقين، وليس هو من فرائض الدين، ولا من شريعة المسلمين، ولا تقتدوا بالزائغين، ولا تثق نفوسكم إلى استماع كلام المتنطعين الذين اتهموا أئمة المسلمين، وردوا ما جاؤوا به عن رب العالمين، وحكموا آراءهم، وأهواءهم في دين الله ودعوا الناس إلى ما استحسنوه دون كتاب الله وسنة رسوله ﷺ). انتهى
[الإبانة الكبرى - باب ترك السؤال عما لا يغني والبحث والتنقير عما لا يضر جهله والتحذير من قوم يتعمقون في المسائل ويتعمدون إدخال الشكوك على المسلمين]
فلا يعجب من يقرأ لــ (مايلز) أو (سارتر) وغيرهما من تشديد السلف الصالح في ترك القراءة لهما وأمثالهما, بل ليزداد عجبا بأن كلام السلف التحذيري كله يدور حول النهي عن الأخذ عما يسمى بالآرائيين من المسلمين, وأما الكافرون فالأمر محسوم
بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39]،
وقوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 68].
فكيف بالله العظيم يجترئ المسلم أو المسلمة على معارضة آيات الله البينات, بآراء مستقاة من أفكار (مايلز) و(سارتر) وأشباههما؟!
ولا عجب عند من علم أن أس هذا الضلال, هو أن كل من يعتقد عقيدة مستندا فيها إلى العقل, ويزعم أن دلالة العقل عليها يقينية, فهو يحيل أن يجيء يقين بخلافها, فيضطر إلى جحد أحد اليقينين؛ ليسلم له الآخر, فالحكم حينئذ للهوى أو للإيمان!!
يقول المعلمي رحمه الله: (وقد عرفتك أن كل معتقد عقيدة مستدللها إلى العقل يزعم أنها يقينية, ومعنى ذلك أنه لو لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشافهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يخالف تلك العقيدة لكذبه، والعياذ بالله... مع أن هؤلاء.. إذا سمعوا آية من القرآن لم يفهموا معناها لم يترددوا في تصديقها, وكذلك إذا كان ظاهرها مخالفا لعقيدتهم؛ فإنهم يصدقونها بعد تأويلها على ما يوافق عقيدتهم, ولكن لو فرضنا أن آية جاءت قطعية الدلالة على خلاف قولهم, فما ندري ماذا يصنعون). انتهى
[رفع الاشتباه: ص48-49]
لهذا تعرف سبب تعظيم أمر الاعتقاد بين السلف وأتباعهم, وأن الخلل إذا تطرق للاعتقاد فسد دين المرء, أو كاد، إذا لم يتداركه الله بلطفه وكرمه.
فعلى المسلم والمسلمة معرفة خطر الاسترسال خلف الشهوات الفكرية, واللوثات العقلية, والحرص على تحصين العقل بالإيمان، ثم بتعلم القرآن وأحكامه, ومباشرة أهله وخاصته ممن يتبعونه حق اتباعه, ويقيمون حروفه وحدوده, فإن كون المرء على الإسلام منة عظيمة، ونعمة جليلة,
لا يجوز لصاحبه جهل حقيقة هذه النعمة, فالمسلم والمسلمة يجب عليهما أن يعلما بأنهما من أهل الجنة مآلا، ما داما على الإسلام الخالص, وعدوهما اللدود إبليس اللعين يسعى بشتى الطرق والوسائل ليخرجهما من الجنة، ما دامت أرواحهما في أجسادهما, كما أخرج أبويهما عليهما السلام؛ فعليهما أن يقطعا الطريق على اللعين الرجيم,
بمعرفة حقيقة المنة بجعلهما على دين الإسلام بفضله وكرمه, لا بذكائهما أو جهدهما, فالذي عليهما الحفاظ على هذه النعمة وتكميلها بأن ينجيا أنفسهما من الدخول في النار بترك المنكرات وأداء الواجبات، كما قد ضمنا النجاة من الخلود فيها إن ماتا على الإسلام الخالص.
(فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس, فإن تولاه الله لم يظفر به عدوه, وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئب الشاة.
فإن قيل: فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب وبينها. وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه؟
قيل: لعمر الله إن الشيطان ذئب الإنسان كما قاله الصادق المصدوق, ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا مع ضعفها, فإذا أعطت بيدها وسالمت الذئب, ودعاها فلبت دعوته, وأجابت أمره, ولم تتخلف، بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة, وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل, ودخلت في محل الذئاب، الذي من دخله كان صيدا لهم, فهل الذنب كل الذنب إلا للشاة, فكيف والراعي يحذرها ويخوفها وينذرها، وقد أراها مصارع الشاء التي انفردت عن الراعي ودخلت وادي الذئاب!).
[ابن القيم- شفاء العليل: ص100]
عن طارق بن شهاب، قال: قيل لحذيفة: أتركت بنو إسرائيل دينها في يوم؟ قال: (لا، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا عن شيء ركبوه، حتى انسلخوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه) [الإبانة الكبرى لابن بطة: ص173-174].
والله أعلم، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.