مصطفى معاذ عباس
عضو نشيط
مبيعات العقارات تزدهر، لكن ليس في الشارع الخلفي لمنزلك أو إحدى القرى السياحية الجديدة، وإنما في عالم جديد بناه فيسبوك، أو قُل في "كون" جديد، لأنه يُسمى كون الأكوان أو "الميتافيرس". يمكنك شراء قطعة أرض، كل "بكسل" يُحسب بمقدار من المال، ويُسمح لك في هذا الفضاء الرقمي بوضع إعلان، أو تأجير الأرض لأحد الفنانين لإقامة حفل موسيقي عليها، أو ربما لتسكينها لإحدى الشخصيات الرقمية. أليس هذا ضربا من ضروب الخيال؟ مَن المجنون الذي سيدفع ماله في شراء بكسلات لا طائل منها؟ ننصحك بالتأني، فهذا الخيال قد أصبح واقعا على ما يبدو.الخيال يصبح حقيقة
الميتافيرس هو مفهوم قادم من عالم الخيال العلمي، يتخيَّله العديد من الأشخاص في صناعة التكنولوجيا خليفةً للإنترنت اليوم. إنه مجرد رؤية في هذه المرحلة، لكن شركات التكنولوجيا مثل فيسبوك تهدف إلى جعله مكانا للعديد من الأنشطة عبر الإنترنت، بما في ذلك العمل واللعب والدراسة والتسوُّق.في علم الكونيات، استُخدم مصطلح "ميتافيرس" (metaverse) أحيانا اختصارا لـ "meta-universe"، ويعني كونا من الأكوان، الذي قد يكون عددا لا نهائيا. ومع ذلك، فإن المعنى التكنولوجي مُستمَد من رواية "Snow Crash" التي كتبها نيل ستيفنسون عام 1992، الذي عرَّف الميتافيرس على أنه مساحة افتراضية مشتركة عملاقة تتكوَّن من جميع الحقائق الافتراضية والواقع المعزز والإنترنت. كما قال مارك زوكربيرغ مؤخرا: "هدفنا الشامل هو المساعدة في إعادة الحياة إلى ما وراء البحار". (1)
"تظهر أريانا غراندي المتلألئة في سماء الليل المرصعة بالنجوم وهي تؤدي أشهر أغانيها، مرتدية قطعتين من الملابس اللامعة وشعرها مُصفَّف على شكل ذيل حصان، ومع حضور اللون الوردي النيون فإن نجمها يتوهَّج أكثر". مهلا، هذا ليس وصفا لأحدث حفلة من حفلات نجمة البوب ذائعة الصيت، حتى إنّها لم تكن حاضرة جسديا، عوضا عن ذلك، تُرى غراندي هنا في شكل رقمي بالكامل جزءا من تحدي الصدوع (The Rift Tour)، الذي أطلقته لعبة الفيديو الشهيرة على الإنترنت "فورتنايت" (Fortnite) بالتعاون مع النجمة الشهيرة، وهي شراكة فريدة بين عملاقين ثقافيين متباينين هما الموسيقى وألعاب الفيديو. (2)
حفلات أريانا غراندي الافتراضية، التي أُقيمت مؤخرا ضمن لعبة "فورتنايت" واسعة الشهرة عالميا، استقطبت عشاق التكنولوجيا المتحمسين الذين يتحدَّثون من جديد عن اقتراب "الميتافيرس". لكن إذا أردنا أن نرى التجسُّد الحقيقي للميتافيرس، فلربما تود أن تلعب لعبة "ديسنترلاند" (Decentraland).
ديسنترلاند هو عالم افتراضي يُقرِّر اللاعبون، أو لنقل "المواطنين"، فيه كيف يريدون تطويره، وما شكل مستقبله. لا يوجد كيان مركزي يتحكَّم في مصير هذه اللعبة، وما يجعلها مميزة حقا هو وجود 43 ألف قطعة أرض (رقمية) ممتلكة وتُؤجَّر لناس عاديين مثلك تماما من جميع أنحاء العالم. أصحاب الأملاك إذن يمتلكون الحق في بناء ما يشاؤون على هذه الأراضي، وهنا يبدأ المرح. (3) يبدأ سعر الأراضي في هذا العالم الافتراضي بنحو 5 آلاف دولار، وهناك قطع متجاورة تُشكِّل بنايات داخل اللعبة بيعت بما يقارب 75 ألف دولار، وكان هذا في 48 ساعة فقط (4)، ما هذا الجنون؟ هل يُلقي هؤلاء الناس أموالهم في الهواء؟
تخيَّل معي الآن أن رجل الأعمال الشهير إيلون ماسك أعلن أنه سيُلقي محاضرة في أحد الأماكن في ديسنترلاند، ومن المُقرَّر أن يكون عدد الحضور خمسة آلاف شخص فقط. حُجزت التذاكر جميعها وحان وقت اللقاء، تمت المحاضرة على خير، وعند الرحيل كانت هناك عيون خمسة آلاف شخص موجَّهة على لوحة إعلانات ضخمة في البناية المقابلة للمركز الذي ألقى فيه إيلون ماسك المحاضرة، خمسة آلاف شخص حضروا في مكان واحد، وكان أول ما رأوه بعد مغادرتهم هو إعلان، والأفضل من ذلك كله أنّ الإعلانات في اللعبة يمكن الضغط عليها.
الكون الجديد
تريد فيسبوك أن تكون شركة رائدة في الميتافيرس، وتريد "إيبك جيمز" (Epic Games) (شركة ألعاب هائلة) أن تكون شركة في الميتافيرس هي الأخرى، وبالمثل تريد أكبر شركات التكنولوجيا في العالم أن تكون جزءا من الحدث. ولكن قبل أن نتمكَّن حتى من التفكير في الحياة في عالم افتراضي هائل، سنحتاج إلى ترقية ضخمة لشبكات الإنترنت والحماية من "غش" التكنولوجيا.في غضون 20 عاما أو ربما أقل، قد تذهب إلى العمل في ميتافيرس. بدلا من القيادة إلى أقرب ساحة لك، يمكنك حضور حفلة لموسيقى الروك في كون خيالي، وبدلا من السباب على القهوة أثناء مشاهدة إحدى المباريات، ستتمكَّن من السباب في ملعب افتراضي مع الآلاف من المشجعين الآخرين. قد تدخل إلى متجر أمازون في المركز التجاري وتضع زوجا من نظارات الواقع المعزز، وتكون قادرا على رؤية أيٍّ من ملايين العناصر المختلفة الموجودة في المخزن في متجر افتراضي.
بدأت شركات التكنولوجيا الكبرى بالفعل في بناء مشاريع "بروتو ميتافيرس". على سبيل المثال، أطلقت شركة "Horizon Workrooms" مكتبا افتراضيا على فيسبوك مؤخرا، حيث يمكنك التفاعل مع الزملاء والتعاون في العمل ومعرفة ما يفعله زملاؤك على شاشاتهم. هذا ليس مفهوما مستقبليا، إنه متاح اليوم، إذا كان لديك أنت وفريقك نظارات الرأس المناسبة للواقع الافتراضي. (5)
هناك ثلاثة جوانب رئيسية للميتافيرس: الوجود، وقابلية التشغيل البيني، والتوحيد القياسي. الوجود هو الشعور بأنك في الواقع في مساحة افتراضية، مع الآخرين الافتراضيين. أظهرت عقود من البحث (6) أن هذا الإحساس بالتجسيد يُحسِّن جودة التفاعلات عبر الإنترنت. يتحقَّق هذا الشعور بالوجود من خلال تقنيات الواقع الافتراضي مثل نظارات الواقع الافتراضي.
تعني إمكانية التشغيل البيني القدرة على التنقل بسلاسة بين المساحات الافتراضية باستخدام الأصول الافتراضية نفسها، مثل الصور الرمزية والعناصر الرقمية. يُتيح "ReadyPlayerMe"، وهو برنامج لتصميم شخصية ثلاثية الأبعاد لاستخدامها في الميتافيرس، يُتيح للأشخاص إنشاء صورة رمزية يمكنهم استخدامها في مئات من العوالم الافتراضية المختلفة، بما في ذلك اجتماعات زووم. وفي الوقت نفسه، تعمل تقنيات سلاسل الكتل (blockchain) مثل العملات المشفرة والرموز غير القابلة للتغير (NFTs) على تسهيل نقل السلع الرقمية عبر الحدود الافتراضية.
التطور القادم
على الرغم من أن الميتافيرس ربما يعني أشياء مختلفة لدى الأشخاص المختلفين، فإن القاسم المشترك هو أنه يُمثِّل الشيء الكبير التالي في عالمنا الرقمي. اقترح بعض النقاد أن هذا المصطلح هو مجرد طريقة خيالية لإعادة تسمية تكنولوجيا الواقع الافتراضي، التي تخلَّفت باستمرار عن طموحات المتحمسين. لكنَّ الحالمين في الميتافيرس يجادلون بأن الأمر أكثر من ذلك بكثير، أو كما يقول زوكربيرغ إنه "واقع أكثر انفتاحا وترابطا واستمرارية، وهو واقع بديل عالمي".يُضيف مؤسس فيسبوك أن الاتصالات عبر الإنترنت، في الوقت الحالي، تقتصر على التفاعلات ثنائية الأبعاد عبر "مستطيلات صغيرة متوهِّجة". لكن فيسبوك يتصوَّر ميتافيرس على أنه "إنترنت مجسد" ثلاثي الأبعاد يمكن للناس فيه "الوجود" المستمر والانتقال الفوري إلى أماكن مختلفة. يمكننا حضور عرض كوميدي مع رفاقنا والضحك على النكات نفسها.
سيتطلَّب أي ميتافيرس عالمي عقودا من تطوير البنية التحتية ومليارات الدولارات من الاستثمار ليصبح حقيقة واقعة. لدى فيسبوك طموحات كبيرة لأعمال شركة "Oculus VR" الخاصة بها، ولكن حتى زوكربيرغ، المدير التنفيذي لشركة فيسبوك، يقبل أن نظارات الواقع الافتراضي (VR) العقيمة تحد من الدخول إلى هذا الكون الجديد. سيتعيَّن على فيسبوك أولا تقليص الحاسوب العملاق في نظارات بسُمك 5 مم لتشجيع التبني الجماعي. تم إيضاح العوائق الأخرى التي تعترض التطور الكامل للميتافيرس في كتاب تمهيدي مُكوَّن من تسعة أجزاء بواسطة ماثيو بول، صاحب رأس المال الاستثماري. لن يقتصر الأمر على تحسين الأجهزة، ولكن سيتعيَّن تطوير طرق جديدة لإنشاء السلع والخدمات الرقمية وتبادلها ودفع ثمنها. (7)
لكن إلى جانب كل ذلك، هناك داعٍ أكبر للقلق. في إحدى المقابلات مع كاتب الخيال العلمي ويليام غيبسون، قال إنه شعر بالحيرة حين أخبره معجبون أنه ألهمهم لممارسة مهنة في مجال التكنولوجيا، بينما فاتهم فكرة أن العديد من رواياته هي نوع من "الديستوبيا"، وقال إن جيلنا سيكون آخر جيل يميز بين العالمين الواقعي والافتراضي، في حين أن الأجيال القادمة ستعتبرهما قابلين للتبادل تماما. (8)
هنا يظهر مفهوم "اختفاء الواقع"، الذي طرحه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، جليًّا في شكل جديد وعصري من العبودية يُطلق عليها "عبودية الشاشات"، فالشاشات تُخفي الواقع، وتُشكِّل كل شيء أمام الفرد، التلفاز والهاتف والحاسوب المتقدم والإعلانات الضخمة على الطرق الرئيسة (والآن داخل الألعاب). هذه الظاهرة تقودنا إلى فهم معضلة بودريار عن "اختفاء الواقع"، وما حلَّ محلّه من صور له مزيفة ومتنوعة ولها القدرة على تكرار ذاتها دون توقُّف، لا يهم إن كنت تريد تحقيق حلمك لتصبح من أبطال الديجيتال أم تريد تجربة شيء جديد، فالواقع لا يزول. (9)