الغريبة
عضو مشاغب
من فضلك قم بتحديث الصفحة لمشاهدة المحتوى المخفي
كُنْ مُسْلِماً (1)
أيّها المسلم:
هاأنذا أهبك من رحيق فكري فلا ترغب عنه فالحكمة ضالّةُ المؤمن،
حيث وجدها فهو أولى بها ومن أوتيها فقد أوتيَ خيراً كثيراً،
فلا يقعدنَّ بك العجزُ عن دخول ميدان الأفكار، فإنه خيرُ منزلٍ تنزله.
واعلم أنّ الله أمرك بالتّفكّر، وطالبك بالتدبّر،
فقف نفسَكَ على أمر مولاك، وطالبْ نفسَك بما طلبه منك،
ففي الأولى النّجاة، وفي الثّانية حلاوةُ الحياة.
أيّها المسلم:
إنّك خليفة الله في أرضه ومظهر ألوهيّته فيها
((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون)) .
واعلمْ أنّك مؤتمنُهُ على رسالته، ووصيُّهُ على أمانته
((إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها
وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا)) .
أيّها المسلم:
لقد خلع الله عليك خلعةَ الخلافة وحمّلك عبأ الأمانة،
فأدّ الأمانةَ وأحسنِ الخلافة، واستعملْ نفسَكَ فيما يرضيه.
وإنّك سفيرُه إلى خلقِه، وحاملُ سِفره في خليقته،
فلا تشتغلْ بما خُلقَ لأجلك، واشتغلْ بما خُلقتَ لأجله.
فإنّ قيامك بما أوكلَ إليكَ هو عينُ الصّواب،
ووقوفكَ على ما طُلبَ منك دليلٌ على أنّك من أولي الألباب.
((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)) .
فلا تكنْ كالذي آتاهُ الله الآياتِ فانسلخَ منها فأتبعه الشّيطانُ فكان من الغاوين.
ولكنْ واجه بنور إيمانك الوقّادِ ليل السّامريّ.
فلن تدخلَ حضرةَ الحقّ إلا إذا تبرّأتَ من "مِساس".
وكنْ كما الشّجرةُ الطّيّبةُ،
أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السّماء، تؤتي أكلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربّها.
قطيرةٌ أنا لكنّي الخضمُّ إذا --- درجتُ فيما يريدُ اللهُ من درجِ
لا بل أنا قدرةٌ تحيا إرادتُها --- لولا الإرادةُ لم أخرج ولم ألجِ
أنا الخليفةُ جلّ الشّأنُ وانطلقتْ --- منه الرّسالاتُ تمضي بالهدى وَتجي
فلا تهتمَّ بمرارةِ الأيّام والأوقات، فإنّ حلاوةَ الإيمان أكبر وجوارُ الله ينسي كلَّ رزيّة.
واحتملْ آلامَكَ في قلبك الكبير، واحتسبْ جراحاتِكَ وعذاباتِكَ قُرُباتٍ على باب الحبيب الأوّل.
(لقد اختارك الله لتحمل هذه الأمانةَ الكبرى،
ولتكونَ مستوعَ نورِ الله وموضعَ تلقّي فيضه
والمركز الذي تتّصل فيه السّماء بالأرض،
إنّ اختيارَ الله هذا لَفضلٌ لا يعدلُهُ فضل،
فضلٌ عظيمٌ يربى على كلّ ما يبذله المؤمن من نفسه وماله وحياته،
ويربى على متاعبِ الطّريق وآلام الكفاح وشدائد الجهاد) .
أيّها المسلم:
لا بأسَ عليكَ إذا جعتَ، فكِسرةٌ من خبزِ رضاه تقيمُ صُلبَك ما عشتَ وتشدُّ أوَدَكَ ما حييت.
ولا بأسَ عليك إذا ظمئتَ، فشربةٌ من كفِّ عطفِه تكفيك، فإنّ وِردَهُ لَذّةٌ للشّاربين.
ولا ضيرَ عليكَ إذا عريت، فإنّ خِلعتَهُ التي خلعها عليك، هي أجملُ ثوبٍ ترتديه.
(ما ضرَّ من كَسَرهُ عِزّي، إذا جبرهُ فضلي،
إنّما تليقُ خِلعةُ العِزِّ ببدنِ الانكسار،
أنا عندَ المنكسرةِ قلوبُهم من أجلي) .
فلا تتبرّمْ بقضاءِ مولاكَ فيك وإنْ كانَ ظاهرُهُ محزناً، ففي خفاياهُ الخيرُ قائمْ.
ولا تضجرْ بقدرِ الله عليك وإنْ كانَ وافدُهُ موهناً، ففي طواياهُ اللّطفُ سالم.
فإنّه سبحانه (ربّما أعطاكَ فمنَعَك، وربّما منعك فأعطاك) ،
وقد قال الحبيبُ المصطفى صلّى اللهُ عليه وسلّم:
«عجباً للمؤمن! لا يقضي اللهُ قضاءً إلا كان خيراً له،
إنْ أصابتهُ ضرّاءُ صبر فكان خيراً له، وإنْ أصابتهُ سرّاءُ
شكر فكانَ خيراً له، وليسَ ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن» .
أيّها المسلم:
(دينك، دينك، إنّما هو لحمُكَ ودمُك)
لا تبعْه فتخسرَ الدّنيا والآخرة، وتصبحَ بضاعةً مزجاة، لا كيلَ لك عند ربّك.
فإنّ فيه مفازكَ بالنّعيم، وجوازَك إلى دارِ المُقامة.
فليكنْ طعامُكَ وشرابُكَ من هذا الدّين، وشهيقُكَ وزفيركَ من هذا الدّين،
حتّى لا تخسرَ كرسيَّ خلافتك.
(الدّنيا مجازٌ، والآخرةُ وطن، وإنّما تُطلبُ الأطمارُ في الأوطان) .
أيّها المسلم:
كلّما شردَ قلبُكَ عن الطّريقِ القويم،
ومالَ عن الصّراطِ المستقيم،
فاغسلْهُ بماءِ الرّجوعِ إلى مولاه.
واصبغْ كلّ جارحةٍ فيك بدهونِ الإيمان وتوجّهْ إلى مولاكَ وقلْ
(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ) ،
حينها تفوزُ في الدّارين، وليكنِ اللهُ في قلبكَ في حركاتِكَ وسكناتِك،
وفي جَلَواتكَ وفي خَلواتك فإنّه (مَنْ وطّنَ قلبَهُ عندَ رَبِّهِ سكنَ واستراح) .
وليكنْ طعامُكَ تسبيحاً وشرابُكَ تسبيحاً ونومُكَ عبادةً
وصلاتُكَ معراجاً إلى قبّةِ كأسِه وحياتُكَ بما فيها لله ربّ العالمين
((قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين
لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)) .
فإذا كان لك هذا فاعلمْ أنّه لو رُميتَ في نارِ عالِمكَ
لعادتْ النّارُ برداً وسلاماً عليك، فإنّه
(مَن تلمّحَ حلاوةَ العافية، هانتْ عليه مرارةُ الصّبر) .
أيّها المسلم:
العالمُ لك، فانصبْ خيمةَ إيمانِكَ فيه،
واضربْ أطنابَها في مقاماتِ الوجود، فلقد ارتضاكَ اللهُ لرسالته،
وأقامكَ في منزلِ كرامتِه، فلا ترغبنّ عنه فيحيلَك،
ولا تصرفْ قلبَكَ عنهُ فيقيلَك، وارغبْ عن نفسِكَ إليه،
وأعرضْ عن الأغيارِ وأقبلْ عليه، واستمعْ إلى لطائفِ الرّقائق
تحملُها هواتفُ الحقائق:
(يا عبدي: نريدُ منكَ أنْ تريدَنا ولا تريدَ معنا،
ونريدُ منكَ أنْ تختارنا ولا تختارَ علينا،
ونرضى لك أنْ ترضانا ولا ترضى سوانا.
ويحَك:
إنّا أجللنا قدرَكَ أنْ نشغلَكَ بأمرِ نفسِك فلا تصغّرْ قدرَك.
يا مَنْ رفعناه: لا تنزلنَّ بحوالتِكَ على غيرِنا،
ويا مَن أعززناه: أنتَ عندَنا أجلُّ مِن أنْ نشغلَكَ بغيرنا.
لحضرتي خلقتُكَ، وإليها خطبتُك، وبجواذبِ عنايتي إليها جذبتُك،
فإن اشتغلتَ بنفسِكَ حجبتُك، وإن اتّبعتَ هواها طردتك،
وإنْ خرجتَ عنها قرّبتُك، وإنْ تودّدتَ إليّ بإعراضِك عمّا سوايَ أحببتُك) .
فكمْ في طوايا هذا النّداءِ من بَوحٍ رقيقْ، وفي خفاياه من همسٍ عتيقْ،
ينبعثُ من مجالِ الكمالِ ومجاليه، إلى مَحالِّ النقصِ ليرفعَهُ ويُعليه.
فيهِ من الخيرِ ما ظَهر حتّى كادَ أنْ يغيبْ، ورقَّ حتّى كأنّهُ عَرفُ طِيبْ.
هتفتْ بهِ أوتارُ الغيوبْ، فحريٌّ أنْ يستقرَّ وافدهُ في زجاجاتِ القلوبْ…
قولاً من ربٍّ رحيم.
أيّها المسلم:
فيكَ نفخةٌ مِن روحِ الله ((ونفخت فيه من روحي)) ويكفيكَ هذا شرفاً،
أسجَدَ لك الملائكَ، وسخَّر لك الأملاكَ، فاحتملكَ منهُ عَرفُ الهداية،
واشتملَكَ من لَدُنهُ طرفُ العناية، فصرتَ بفضلِهِ أهلاً للإمامةِ والولاية،
فارقَ بنفسِكَ عن بَدأةِ الصّلصالِ والفخّار،
لتكونَ أهلاً لمنازلِ الأبرارْ،
وجرّدْ نفسَكَ عنْ سِوى الله في دارِ العبادة،
لتكونَ كفئاً في هذه الدّنيا للقيادةِ والسّيادة.
إنّكَ قبضةٌ من طينِ هذا العالم،
ولكنّكَ قبلَ ذلكَ مهبِطُ السِّرِّ ومُجتمعُ الحقائق،
فلا يذهبنَّ بك الخطأُ بعيداً:
وتحسبُ أنّكَ جِرمٌ صغيرٌ --- وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ
أيّها المسلم:
مكانُكَ في القمّة، فلا تخترْ على القمّةِ قيعانَ الضّياع،
ولا تنزلنَّ بك همّتُكَ إلى أسفلَ مِن قدميك،
وأوقفْ نفسَكَ على عزائمِ الأمور،
فإنّما خُلقتَ لتسبحَ في فضاءاتِ الله صباحَ مساء:
فطرةُ الحرِّ لا تُطيقُ مُقاماً -- فَأْلفِ السّيرَ دائباً كالنّسِيم
ألفُ عينٍ تشقُّ صخرَكَ فاضربْ -- بعدَ غَوصٍ في الذّاتِ ضربَ الكليمِ
واعلمْ بأنّ العالمَ لكَ بمائهِ وترابه، فلا تحصرْ نفسَك في كوخِ عجزكَ ودَعتك،
ولكن انشرْ من أنفاسِ إيمانِكَ ما يُطيّبُ عناصرَ الأرض،
ولوّنْ بطيفِ همّتِك جوهرَ الخليقة،
وأقمْ في حمى القلوبِ صروحَ الحقيقة،
واعلمْ أنَّ المؤمنَ القويَّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضّعيف.
فلا ترفعِ الرّايةَ البيضاءَ ما دامَ سيفُ إيمانكَ معك،
فإذا ألقيتَهُ فالنّارُ أولى بك، حينها لا ينجيك، أرفعتَ الرّايةَ أمْ لم ترفعها!!!
(يا مَنْ غُذّيَ بألبانِ البِرّ، وقُلِّبَ بأيدي الألطاف،
كلُّ الأشياءِ شجرةٌ وأنتَ الثّمرة،
وصورةٌ وأنتَ المعنى، وصدفٌ وأنتَ الدُّرّ) .
أيّها المسلم:
إذا ضاقتْ عليك الأرضُ بما رحبتْ، واجتمعتْ عليكَ أطرافُ الدُّنيا
فادخلْ غارَ فكرتِكَ الصّحيحة فإنّهُ غارُ حِراء،
وإذا حاربَكَ أهلُ الباطلِ وتَبِعوك بسيوفِ منكرهم
فلا تحزنْ فأنت في غارِ ثور، إنّه بدايةُ الطّريق،
ثمّ هاجرْ إلى اللّه تجدِ المدينةَ بانتظارك،
تلك هي حضرةُ الرّحيق الختومِ فادخلْها،
وإذا خفتَ أن يُنالَ منك، فَأْوِ إلى كهفِ العناية،
ينشرْ لك اللهُ من رحمته ويهيّئ لك من أمركَ يسرا.
وإذا تلجلجَ قلبُكَ واضطربْ فالجأْ إلى محرابِ ذكرِ الله
((ألا بذكر الله تطمئن القلوب)) .
عليكَ وحدَكَ بعدَ اللهِ فاعتمدِ --- وانهضْ بعبئِكَ لا تلوي على أحدِ
ألستَ حرّاً وزادُ الحرِّ همّتُهُ الـ --- قعساءُ في رخوِ عيشٍ كانَ أو كَبَدِ
فاكبحْ تردّدَها واقدحْ توقّدّها --- وإنْ خبوتَ فلُذْ باللهِ واتّقِدِ
ولا تقلْ شختُ خفقُ القلبِ ما فتئتْ --- تدعوكَ جذوتُهُ الحرّى إلى الصّددِ
شمِّرْ وقلْ باسمِكَ اللّهمّ منطلقاً --- وإنْ وَنَيتَ فإنّ الله في المدَدِ
وأحيِ قلبَكَ بالذّكرِ الدّؤوبِ وصُنْ --- أنفاسَ نفسِكَ من رينٍ ومن نكدِ
وانفضْ يديكَ من الجاهِ السِّفاه ولا --- تلجأْ إلى غيرِ ذاتِ الخالقِ الصّمدِ
أنس إبراهيم الدغيم