الموج الصامت
عضو مشاغب
تَنزيهُ الحَنابلةِ الأبرارِ عن القَولِ بجَوازِ التَّهنئةِ بأعيادِ الكُفَّارِ
د. مطلق بن جاسر الجاسر
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسولِ اللهِ، وعلى آلِه وصحْبِه ومَن والاهُ،
أمَّا بعدُ:
فقدِ انتشَرَ بيْنَ النَّاسِ كَلامٌ يَنسُبُ فيه صاحبُه للإمامِ أحمدَ رِوايةً اختارها شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ-رَحِمهما اللهُ- في جَوازِ تَهنئةِ الكفَّارِ بأعيادِهم الكُفريَّةِ!
ولا شكَّ أنَّ هذا غلَطٌ، ومَنشَأُ هذا الغلطِ هو الفَهمُ الخاطِئُ لكلامِ الأصحابِ-رَحِمهم اللهُ- عندَ ذِكرِ الرِّواياتِ في جَوازِ تَهنئةِ الكفَّارِ وتَعزيتِهم وعِيادتِهم؛
فقدْ قال الإمامُ المَرداويُّ-رَحِمه اللهُ- في ((الإنصاف)) ( ١٠ / ٤٥٦ ):
(قولُه [أي: الإمامِ الموفَّقِ]: وفي تَهنئتِهم وتَعزيتِهم وعِيادتِهم: رِوايتانِ. وأطلَقَهما في الهِدايةِ، والمذْهبِ، ومَسبوكِ الذَّهبِ، والمسْتوعِبِ، والخُلاصةِ، والكافي، والمُغْني، والشَّرحِ، والمحرَّرِ، والنَّظمِ، وشَرحِ ابنِ مُنَجَّا.
إحْداهما: يَحرُمُ، وهو المذْهبُ، صحَّحه في التَّصحيحِ، وجزَمَ به في الوجيزِ، وقدَّمه في الفُروعِ.
والرِّوايةُ الثَّانيةُ: لا يَحرُمُ، فيُكْرَهُ، وقدَّمه في الرِّعايةِ، والحاوِيَينِ في بابِ الجنائِزِ. ولم يَذكُرْ رِوايةَ التَّحريمِ. وذكَر في الرِّعايتَينِ والحاوِيَينِ رِوايةً بعدَمِ الكَراهةِ، فيُباحُ، وجزَم به ابنُ عَبْدوسٍ في تَذكِرتِه. وعنه: يَجوزُ لمَصلحةٍ راجحةٍ، كرَجاءِ إسلامِه؛ اختاره الشَّيخُ تَقيُّ الدِّينِ).اهـ.
قلتُ: قدْ فَهِم بعضُ النَّاسِ مِن هذا النَّصِّ أنَّ هناك رِوايةً في المذهبِ،
واختارَها شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّة َ-رَحِمَه اللهُ- في جَوازِ تَهنئةِ الكفَّارِ بأعيادِهم الكُفريَّةِ!
وهذا غيرُ صَحيحٍ؛
فإنَّ هذه الرِّواياتِ في حُكمِ تَهنئتِهم بمُناسباتِهم الدُّنيويَّةِ -كالمولودِ الجديدِ،
أو زِيادةِ مالٍ، ونحوِ ذلك- وليْس المقصودُ التَّهنئةَ بأعيادِهم وشَعائرِهم الكُفريَّةِ!
ويدلُّ على ذلك ما يَلي:
أوَّلًا: قال الإمامُ مَجْدُ الدِّينِ ابنُ تيميَّةَ في كتابِه ((المحرر)) ( ٢ / ٤٣١ )🙁
وفي جَوازِ تَهنئتِهم وتَعزيتِهم وعِيادتِهم رِوايتانِ، ويُدْعى لهم -إذا أجَزْناها-
بالبقاءِ وكَثرةِ المالِ والولدِ، ويُقصَدُ به كَثْرةُ الجِزيةِ). اهـ.
وهذا ظاهرٌ في أنَّ المقصودَ به التَّهنئةُ في الأمورِ الدُّنيويَّةِ، ويُؤكِّدُ ذلك أنَّه قال بعْدَ ذلك🙁
ويُمْنَعون مِن إظهارِ المُنكَرِ، وضرْبِ النَّاقوسِ، وإظهارِ أعيادِهم...).
ويُوضِّحُ ذلك أكثَرَ ويُجلِّيه قولُ الإمامِ ابنِ القيِّمِ-رَحِمه اللهُ- في كتابِه ((أحكام أهْلِ الذِّمَّةِ)) (١/ ٢٠٥)🙁
فصْلٌ في تَهنئتِهم بزَوجةٍ، أو ولَدٍ، أو قُدومِ غائِبٍ، أو عافيةٍ، أو سَلامةٍ مِن مَكروهٍ، ونحوِ ذلك، واختَلَفتِ الرِّوايةُ في ذلك عن أحمدَ؛ فأباحَها مرَّةً، ومنَعَها أُخرى، والكلامُ فيها كالكَلامِ في التَّعزيةِ والعِيادةِ، لافَرْقَ بيْنهما).
قلتُ: فاتَّضحَ بذلك المقصودُ.
ثانيًا: قدْ نقَلَ ابنُ القيِّمِ -رَحِمه اللهُ- الإجماعَ على تَحريمِ تَهنئةِ الكُفَّارِ بشَعائرِ الكُفرِ؛
فقدْ قال في ((أحكامِ أهلِ الذِّمَّةِ)) (١/ ٢٠٥):
((وأمَّا التَّهنئةُ بشَعائرِ الكُفرِ المختصَّةِ به فحَرامٌ بالاتِّفاقِ، مِثلُ أنْ يُهنِّئَهم بأعيادِهم وصَومِهم،
فيقولَ: عِيدٌ مُبارَكٌ عليك، أو تَهنَّأْ بهذا العِيدِ، ونحْوَه؛ فهذا إنْ سَلِمَ قائلُه مِن الكُفرِ،
فهو مِن المُحرَّماتِ، وهو بمَنزلةِ أنْ يُهنِّئَه بسُجودِه للصَّليبِ...
وكثيرٌ ممَّن لا قَدْرَ للدِّينِ عِندَه يقَعُ في ذلك!).اهـ.
قلتُ: فهلْ يُتصوَّرُ أنْ يَنقُلَ ابنُ القيِّمِ الإجماعَ على التَّحريمِ في مَسألةٍ
قدْ نُقِل عن الإمامِ أحمَدَ فيها ثَلاثُ رِواياتٍ، ويَختارُ شَيخُه فيها الجوازَ؟!
ثالثًا: أنَّ لشَيخِ الإسلامِ عِباراتٍ تُؤكِّدُ -بما لا يدَعُ مَجالًا للشَّكِّ- أنَّ رأْيَه تَحريمُ المشاركةِ في أعيادِ الكُفَّارِ بأيِّ نوعٍ مِن أنواعِ المشارَكةِ؛فقدْ قال -رَحِمه اللهُ- في كتابِه ((اقْتِضاء الصِّراطِ المسْتقيمِ)) (١/ ٤٨٣):
(وأمَّا أعيادُ المشركين: فجَمَعتِ الشُّبهةَ والشَّهوةَ، وهي باطلٌ؛ إذ لا مَنفعةَ فيها في الدِّينِ،
وما فيها مِن اللَّذَّةِ العاجِلةِ، فعاقبتُها إلى ألَمٍ، فصارتْ زُورًا، وحُضورُها: شُهودُها،
وإذا كان اللهُ قدْ مدَحَ ترْكَ شُهودِها الَّذي هو مُجرَّدُ الحُضورِ برُؤيةٍ أو سَماعٍ؛
فكيفَ بالموافَقةِ بما يَزيدُ على ذلك، مِن العمَلِ الَّذي هو عمَلُ الزُّورِ، لا مُجرَّدُ شُهودِه؟!) اهـ.
وقال في (١/ ٤٨٩)🙁
والمَحذورُ في أعيادِ أهلِ الكِتابَينِ الَّتي نُقِرُّهم عليها أشدُّ مِن المَحذورِ في أعيادِ الجاهليَّةِ الَّتي لا نُقِرُّهم عليها؛ فإنَّ الأُمَّةَ قدْ حُذِّروا مَشابَهةَ اليَهودِ والنَّصارَى، وأُخْبِروا أنْ سيَفعَلُ قَومٌ منهم هذا المحذورَ، بخِلافِ دِينِ الجاهليَّةِ؛ فإنَّه لا يَعودُ إلَّا في آخِرِ الدَّهرِ عِندَ اخترامِ أنفُسِ المُؤمنِينَ عُمومًا، ولوْلم يكُنْ أشدَّ منه، فإنَّه مِثلُه على ما لا يَخفَى؛ إذ الشَّرُّ الَّذي له فاعِلٌ مَوجودٌ يُخافُ على النَّاسِ منه أكثَرَ مِن شَرٍّ لا مُقتضِيَ له قَوِيٌّ) اهـ.
وقال أيضًا في (١/ ٥٢٨):
(الأعيادُ مِن جُملةِ الشَّرعِ والمناهِجِ والمناسِكِ، الَّتي قال اللهُ سُبحانه {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ}
[الحج: 67]، كالقِبلةِ والصَّلاةِ والصِّيامِ؛ فلا فرْقَ بيْنَ مُشاركتِهم في العِيدِ وبيْنَ مُشاركتِهم في سائِرِ
المناهِجِ؛ فإنَّ الموافَقةَ في جَميعِ العِيدِ مُوافَقةٌ في الكُفرِ، والموافَقةَ في بَعضِ فُروعِه مُوافَقةٌ
في بَعضِ شُعَبِ الكُفرِ! بلِ الأعيادُ هي مِن أخصِّ ما تَتميَّزُ به الشَّرائعُ، ومِن أظْهرِ ما لها مِن الشَّعائرِ؛
فالموافَقةُ فيها مُوافَقةٌ في أخصِّ شَرائِعِ الكُفرِ، وأظهرِ شَعائرِه) اهـ.
وقال أيضًا -كما في ((مجموع الفتاوى)) (٢٥ / ٣٢٩ – ٣٣٢):
(لا يَحِلُّ للمُسلِمينَ أنْ يَتشبَّهوا بهم في شَيءٍ ممَّا يَختَصُّ بأعيادِهم؛ لا مِن طَعامٍ،
ولا لِباسٍ ولا اغتسالٍ، ولا إيقادِ نِيرانٍ، ولا تَبطيلِ عادةٍ مِن مَعيشةٍ أو عِبادةٍ، وغيرِ ذلك،
ولا يَحِلُّ فِعلُ وَليمةٍ، ولا الإهداءُ، ولا البيعُ بما يُستعانُ به على ذلِك لأجْلِ ذلِك،
ولا تَمكينُ الصِّبيانِ ونَحوِهم مِنَ اللَّعِبِ الَّذي في الأعيادِ، ولا إظهارُ زِينةٍ.
وبالجُملةِ ليْس لهم أنْ يخُصُّوا أعيادَهم بشَيءٍ مِن شَعائرِهم، بلْ يكونُ يوْمُ عِيدِهم عندَ المسْلِمين كسائرِ الأيَّامِ، لا يَخُصُّه المسْلِمون بشَيءٍ مِن خَصائصِهم. وأمَّا إذا أصابَه المسْلِمون قصْدًا، فقدْ كَرِهَ ذلك طَوائفُ مِن السَّلفِ والخلَفِ. وأمَّا تَخصيصُه بما تَقدَّمَ ذِكرُه فلا نِزاعَ فيه بيْن العُلماءِ، بلْ قدْ ذهَبَ طائفةٌ مِن العُلماءِ إلى كُفرِ مَن يَفعَلُ هذه الأُمورَ؛ لِما فيها مِن تَعظيمِ شَعائرِ الكفْرِ، وقال طائفةٌ منهم: مَن ذبَحَ نَطيحةً يوْمَ عِيدِهم فكأنَّما ذَبَح خِنزيرًا.
وقال عبْدُ اللهِ بنُ عَمرِو بنِ العاصِ:
مَن تَأسَّى ببِلادِ الأعاجمِ، وصَنَعَ نَيْروزَهم ومَهْرجانَهم،
وتَشبَّهَ بهم حتَّىَ يَموتَ وهو كذلك؛ حُشِرَ معهم يوْمَ القيامةِ.
وقدْ شرَطَ عليهم أميرُ المؤمِنينَ عُمرُ بنُ الخطَّابِ، والصَّحابةُ، وسائرُ أئمَّةِ المسْلِمين؛
ألَّا يُظهِروا أعْيادَهم في دارِ [بلادِ] المسْلِمين، وإنَّما يَعمَلونها سِرًّا في مَساكنِهم.
وقدْ قال غيرُ واحدٍ مِن السَّلفِ في قولِه تعالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72]، قالوا: أعيادَ الكفَّارِ، فإذا كان هذا في شُهودِها مِن غيرِ فِعلٍ، فكيْف بالأفعالِ الَّتي هي مِن خَصائصِها؟! وقدْ رُوِيَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المسْنَدِ والسُّننِ أنَّه قال: (مَن تَشبَّهَ بقَومٍ فهو منْهم)، وفي لَفظٍ: (ليْس منَّا مَن تَشبَّهَ بغَيرِنا)، وهو حَديثٌ جيِّدٌ. فإذا كان هذا في التَّشبُّهِ بهم، وإنْ كان مِن العاداتِ، فكيْف التَّشبُّهُ بهمْ فيما هو أبلَغُ مِن ذلك؟!
وقدْ كَرِه جُمهورُ الأئمَّةِ -إمَّا كَراهةَ تَحريمٍ، أو كَراهةَ تَنزيهٍ- أكْلَ ما ذَبَحوه لِأعيادِهم وقَرابينِهم؛ إدخالًا له فيما أُهِلَّ به لغيرِ اللهِ وما ذُبِحَ على النُّصبِ، وكذلك نَهَوا عن مُعاونتِهم على أعيادِهم بإهداءٍ أو بَيعٍ، وقالوا: إنَّه لا يَحِلُّ للمُسْلمين أنْ يَبِيعوا للنَّصارى شَيئًا مِن مَصلَحةِ عِيدِهم؛ لا لحْمًا، ولا دَمًا، ولا ثَوبًا، ولا يُعارُونَ دابَّةً، ولا يُعاوَنون على شَيءٍ مِن دِينِهم؛ لأنَّ ذلك مِن تَعظيمِ شِركِهم، وعَونِهم على كُفرِهم، ويَنْبغي للسَّلاطينِ أنْ يَنْهَوا المسْلِمين عن ذلك؛ لأنَّ اللهَ تعالَى يقولُ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
[المائدة: 2].
ثمَّ إنَّ المسْلِمَ لا يَحِلُّ له أنْ يُعِينَهم على شُربِ الخُمورِ بعَصرِها، أو نحْوِ ذلك،
فكيْف على ما هو مِن شَعائرِ الكُفرِ؟!
وإذا كان لا يَحِلُّ له أنْ يُعِينَهم هو، فكيْف إذا كان هو الفاعلَ لذلك؟!).
فكيْف يُتصوَّرُ أنْ يُنسَبَ لقائلِ العِباراتِ السَّابقةِ جَوازُ تَهنئتِهم بأعيادِهِم الكُفريَّةِ؟!
هذا ما تَيسَّرَ إيرادُه -على عجَلٍ- في هذه المسألةِ ذَبًّا عن الإمامِ أحمَدَ ومَذهبِه،
وعن شَيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ أنْ يُنسَبَ لهما مِثلُ هذا القولِ الشَّنيعِ!
واللهُ أعلَمُ،،
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِه وصَحبِه أجْمَعين،،
المصدر : موقع الدرر السنية
التعديل الأخير بواسطة المشرف: