د عبدالخالق أبوالخير
عضو جديد
بعد الحمدلة والصلاة والسلام على نبي الهدى سيد الخلق أجمعين وبعد / فأخي القاريء: سأتحدث عن الشعيرة الّتي كلم اللّه بها نبينا محمدا ﷺ بلا واسطةٍ، من فوق سبع سموات ، وفرضت عليه وهو في سدرة المنتهى ، وهي عمود الإسلام، وركنه الأول بعد الشهادتين، وهي العبادة الوحيدة التي يؤذن في النّاس بها كلّ يوم وليلة خمس مرات .
أحب الصلاة واشتاقها وتسمو بروحي آفاقها
أيا وقفة تسّتشف الوجود وتجلو لنفسي طريق الخلود
تعلّمني أن درب الحياة بغير هدى الله درب كؤود
صلاتي ارتني الهدى والضياء وعمّت وجودي بنعمى العطاء
أرتني كياني وحريتي وأنّي على سنن الأنبياء
اذا ما وقفت أؤدي الصلاة وعيّت الوجود وعشت الحياة
وناجيت ربي العلي القدير ليسلكني في صراط الهداة
خشوعي لربي لا لسواه فلست أسير بغير هداه
ويخشع غيري لعبد ضعيف ويعبد غيري ضلالا هواه
أحب الصلاة واشتاقها وتسمو بروحي آفاقها
فصلاة الجماعة واجبة على الرجال، ومرتاد المساجد في ضيافة الرحمن جل جلاله ومن غدا إلى المسجد أو راح أعدّ اللّه تعالى له نزلا في الجنّة كلّما غدا أو راح ، إنّ كلّ إنسانٍ إذا دعي إلى ضيافةٍ استعدّ لها بالغسل والطّيب، واختار لها من اللّباس بحسب نوعها ومنزلة صاحبها، وموقعه هو من الضّيافة، ومن ضيّفه ملوك الدّنيا ليس كمن ضيّفه سائر النّاس، فما ظنّكم بمن ضيّفه ملك الملوك، وربّ العالمين، وخالق النّاس أجمعين؟! ولمّا كان مرتاد المساجد لحضور الجماعة ضيفا على اللّه شرع له من الأعمال والآداب ما يلتزم به ، لحقّ هذه الضّيافة العظيمة، الّتي لا تقاربها ضيافةٌ دنيويّةٌ مهما كانت، وللضّيف فيها من الثّواب الجزيل على قدر التزامه بما شرع اللّه تعالى له في هذه الشّعيرة العظيمة ، ومن تلكم الأعمال والآداب: أن يخلص النّيّة للّه تعالى قبل خروجه إلى الصّلاة، وأن يستحضر عظمتها ومكانتها من الدّين، ومنزلتها عند اللّه عزّ وجلّ ، حتّى تعظم في قلبه، فلا ينازعه فيها مخلوقٌ مهما كان عظيما، ولا يصدّه عنها شغلٌ دنيويٌّ وإن كان كبيرا، وقد جاء عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال " من أتى المسجد لشيءٍ فهو حظّه " رواه أبو داود، وما من شك في أنّ من أتاه للصّلاة فحظّه عظيم ، لمنزلتها عند اللّه تعالى، ولمكانتها من دين الإسلام ، إنّ كثيرا من النّاس يغيب عنهم هذا المعنى المهمّ قبل الخروج إلى المسجد، وهو استحضار عظمة الصلاة عند الخروج إليها ،وذلك لاعتيادهم عليها، ولو وطّنوا أنفسهم وجاهدوها قبيل كلّ صلاةٍ على استحضار مكانتها من الدّين، ومنزلتها عند ربّ العالمين ، لوجدوا فيها أعظم اللذة والرّاحة، كما كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول وجعلت الصلاة قرة عيني ، وممّا يدلّ على عظمة الصّلاة في الدّين ما شرع لها من التّطهّر والوضوء رغم أنّها تتكرّر خمس مرّاتٍ كلّ يوم، ورتب على هذا الوضوء أجورٌ عظيمةٌ من تكفير الخطايا مع كلّ عضوٍ يغسله، وفتح أبواب الجنّة للمتوضّئ إذا أنهى وضوءه، وأتى بالذّكر الوارد عقبه ، وهذا التّطهّر لها ممّا يليق بحقّ هذه الضّيافة العظيمة ، ولذا شرع لها التّزين باللّباس، والطّيب والسّواك لتطهير الفم (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجد) وقال النّبيّ عليه الصّلاة والسلام: " لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك مع كلّ صلاةٍ "رواه الشّيخان ، ومن الاستهانة بالمسجد وبالصّلاة أن يحضرها المصلي بما لا يليق من لباس النّوم أو الرّياضة أو المهنة مع ما تعجّ به من روائح صنعته وحرفته أو نحوها من الألبسة الّتي لا يرضى أن يلبسها له ضيفه، ولا يلبسها هو إذا دعي إلى ضيافة ، فكيف يرفضها في مجلس بيته، ويرضاها في مسجد ربّه؟! وكيف لا يقبلها على نفسه في دعوة البشر، ويقبلها في دعوة ربّ البشر سبحانه وتعالى؟! وجاء النّهي الشّديد عن حضور الجماعة بالرّوائح الكريهة ، لأنّ ذلك ينافي عظمة الضّيافة، ويتأذّى به الملائكة والمؤمنون، روى جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال " من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا وليقعد في بيته " رواه الشّيخان، وفي روايةٍ لمسلمٍ " من أكل البصل والثّوم والكرّاث فلا يقربنّ مسجدنا فإنّ الملائكة تتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم " فلا يحلّ لمسلمٍ أن يحضر المسجد بروائح الثّوم أو البصل أو الدّخان أو نتن جواربه أو ملابسه إذا كان لا ينظّفها، ولا يؤذي المصلّين برائحته، ولو لم يكن في الدّخان سيّئةٌ إلّا أنّ المدخّن يؤذي الملائكة والمصلّين برائحته لكان ذلك رادعا للمبتلى به أن يسعى جهده في الإقلاع عنه ، ومن ابتلي برائحة كريهة في جسده وثوبه أو بخرٍ في فمه فليسعى قبل حضوره إلى المسجد إلى إزالتها بأنواع المطهّرات والرّوائح الطيبة، وإذا خرج من بيته إلى المسجد قدم رجله اليسرى في خروجه ، وأتى بالأذكار الواردة في ذلك ، فإنّها تدحر شيطانه، وتعينه على الخشوع في صلاته ، ومشيه إلى المسجد أفضل من ركوبه ، لما رتّب على الخطو إلى المساجد من رفع الدّرجات، وزيادة الحسنات، وتكفير الخطيئات، قال عليه الصلاة والسلام “ ألا أدلّكم على ما يمحو اللّه به الخطايا ويرفع به الدّرجات؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة فذلكم الرّباط “وفي رواية“ وكلّ خطوةٍ تمشيها إلى الصّلاة صدقةٌ “رواه الشيخان، وهذا الخير العظيم لا يتأتّى إلّا لمن استعدّ للصّلاة قبل دخول وقتها، أو في أوّله، وخرج إلى المسجد مبكّرا، والتّبكير إلى الصّلاة سببٌ لتحصيل عباداتٍ كثيرةٍ تفوت على المتأخّرين عن الصّلاة إلى قرب الإقامة أو بعدها ، قال الحافظ ابن خزيمة رحمه اللّه “ باب ذكر فرح الرّبّ تعالى بمشي عبده إلى المسجد متوضّيا، ثمّ ساق تحته حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: “ لا يتوضّأ أحدٌ فيحسن وضوءه ويسبغه ثمّ يأتي المسجد لا يريد إلّا الصّلاة فيه، إلّا تبشبش اللّه إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته “ فإذا أقيمت الصّلاة وهو يمشي فلا يسرع في مشيه لإدراك تكبيرة الإحرام أو الرّكعة أو الصّلاة، ، روى أبو هريرة رضي اللّه عنه فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول " إذا أقيمت الصّلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السّكينة فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم فأتمّوا " رواه الشّيخان، وفي رواية لمسلم " فإنّ أحدكم إذا كان يعمد إلى الصّلاة فهو في صلاة " وما يفعله كثيرٌ من النّاس من الجري وتسريع الخطّا والجلبة والنّحنحة ورفع الصّوت والضّرب بالأرجل لإدراك الرّكوع ممّا ينافي الوقار والسّكينة، وفيه مخالفةٌ للأحاديث الصّحيحة، مع ما فيه من إزعاجٍ للمصلّين وتشويشٍ عليهم ، فحريٌّ بالمصلّي أن يجتنب ذلك، وأن يبكّر للصّلاة ما استطاع ، ومن كبير الخطأ: تشويش كثير من النّاس على إخوانهم المصلّين بهواتفهم بما يصدر عنها من أصواتٍ متنوّعة، تزعج المصلّين، وتذهب خشوعهم، سواء كانت قرآنا أم أذانا أم دعاء أم غير ذلك ، فإذا كانت تصدر غناء أو موسيقى فالجرم أكبر، والأذيّة أشدّ ، إذ كيف يرضى مسلم بمحرمات يجلبها إلى بيوت اللّه تعالى، مع ما في ذلك من أذيّة الملائكة والمصلّين، فليتّق اللّه تعالى من يتساهلون في ذلك ، فإذا أراد دخول المسجد قدّم رجله اليمنى، وأتى بذكر دخول المسجد، قال أنسٌ رضي اللّه عنه "من السّنّة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى " رواه الحاكم وصححه ، ويحرص على الصّف الأول، وعلى القرب من الإمام ما استطاع، وعلى أن يكون في يمين الصف ، لما رتب على ذلك من الأجور العظيمة، قال عليه الصلاة والسلام " لو يعلم النّاس ما في النداء والصف الأوّل ثمّ لم يجدوا إلّا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التّهجير أي التبكير لاستبقوا إليه " متّفق عليه من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ، وفي حديث عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " إنّ اللّه وملائكته يصلّون على ميامن الصّفوف " رواه أبو داود ، وإذا أخذ مكانه في المسجد فلا يجلس حتّى يصلّي ركعتين ، لحديث أبي قتادة بن ربعيّ رضي اللّه عنه قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتّى يصلّي ركعتين " رواه الشّيخان ، وهو لا يزال في صلاةٍ ما دام ينتظر الصّلاة، فإن شاء تنفّل أو قرأ القرآن أو اشتغل بالذّكر أو بالدّعاء، ولا يشتغل بأمور الدّنيا أو بالحديث مع غيره وهو منتظرٌ صلاته، ولا يعبث في المسجد بثوبه أو يديه أو ساعته أو جواله، ولا يشبّك بين أصابعه; لحديث كعب بن عجرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: " إذا توضّأ أحدكم فأحسن وضوءه ثمّ خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبّكنّ يديه فإنّه في صلاةٍ " رواه أبو داود ، ولا يرفع صوته بقرآنٍ أو ذكرٍ فيشوّش على غيره ، لما جاء في حديث أبي سعيدٍ رضي اللّه عنه قال " اعتكف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف السّتر وقال : ألا إنّ كلّكم مناجٍ ربّه فلا يؤذينّ بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعضٍ في القراءة أو قال في الصّلاة " رواه أبو داود ، وإذا أقيمت الصّلاة فلا يصلّي إلّا المكتوبة ، لأمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك، ولأنّها هي المقصود من مجيئه للمسجد ، فإذا صلّى أتى بالأذكار بعد انتهاء الصّلاة، والسّنّة أن يجهر بها لما روى الشّيخان عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما: "أنّ رفع الصّوت بالذّكر حين ينصرف النّاس من المكتوبة كان على عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم " فإن كان للصّلاة راتبة بعدية أتى بها في المسجد، وإن صلّاها في بيته فذلك أفضل ، لقول النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: " صلّوا أيّها النّاس في بيوتكم فإنّ أفضل الصّلاة صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة " رواه الشّيخان عن زيد بن ثابتٍ رضي اللّه عنه، وروى مسلمٌ عن جابرٍ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم(إذا قضى أحدكم الصّلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإنّ اللّه جاعلٌ في بيته من صلاته خيرا ) أسأل اللّه تعالى أن يعلّمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علّمنا .
أخي القاريء : إن للمساجد حرمتها عند اللّه تعالى، وواجب على مرتاديها أن يراعوا تلك الحرمة، وأن يلتزموا فيها بآداب الشّريعة، ومن فقد شيئا فلا يسأل عنه في المسجد رجاء أن يجده ، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: " من سمع رجلا ينشد ضالّة في المسجد فليقل: لا ردّها اللّه عليك فإنّ المساجد لم تبن لهذا " رواه مسلم ، ومن تعظيم المساجد تحريم البيع والشّراء فيها وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح اللّه تجارتك " رواه التّرمذيّ ، وكثير من النّاس لا يحلو لهم الحديث عن الدّنيا والبيع والشّراء والتّجارة والعقار والأسهم إلّا في المساجد، وأثناء انتظار الصّلاة، ولا سيّما إذا جلس بجوار شريكه أو قرينه، وذلك من تزيين الشّيطان لهم ، لينقص من أجرهم، ويزيد في إثمهم، فالحذر الحذر من ذلك، فإنّ المساجد ما بنيت لهذا ، ويدخل في معنى ذلك: التّسوّل في المساجد فإن فيه تشويشٌ على المصلين ، وإشغالٌ لهم عن الذّكر، وإلحاحٌ في المسألة، كما هو واقعٌ في هذا الزّمن ، إذ لا يهنأ الواحد منهم حتّى يصيح في النّاس يفصّل حاجته، ويستدرّ عواطفهم، وكلّ ذلك ممّا ينهى عنه في المساجد، وكان ابن عبّاس رضي اللّه عنهما يسبّ المتسوّلين ويقول: لا تشهدون جمعة ولا عيدا إلّا للمسألة والأذى... وأمر أخر مهم من يسبق الإمام أو يسلم مع الإمام أو قبله ، فالواجب أن يسلم بعد الإمام قال عليه الصلاة والسلام ( أما يخشى الذي يرفع راسه قبل الإمام أن يحول الله راسه راس حمار أو يجعل صورته صورة حمار إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ) .
أخي القاريء : تلك آداب عظيمة شرعت لمن أراد الخروج إلى الصلاة، وكان من روّاد المساجد; ليكتمل أجره، ويعظم جزاؤه، فحري بنا وبكلّ مسلمٍ أن يتعلمها ويعمل بها ، التزاما بالسّنّة، وطلبا للأجر من اللّه تعالى ، هذا وصلى وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، صلى عليك الله يا نبع الهدى ، ما طار طير في السماء وغرّدا ، يا خير رسل الله قدرك قد سما ، فاشفّع لمن صلى عليك وسلما ...
أحب الصلاة واشتاقها وتسمو بروحي آفاقها
أيا وقفة تسّتشف الوجود وتجلو لنفسي طريق الخلود
تعلّمني أن درب الحياة بغير هدى الله درب كؤود
صلاتي ارتني الهدى والضياء وعمّت وجودي بنعمى العطاء
أرتني كياني وحريتي وأنّي على سنن الأنبياء
اذا ما وقفت أؤدي الصلاة وعيّت الوجود وعشت الحياة
وناجيت ربي العلي القدير ليسلكني في صراط الهداة
خشوعي لربي لا لسواه فلست أسير بغير هداه
ويخشع غيري لعبد ضعيف ويعبد غيري ضلالا هواه
أحب الصلاة واشتاقها وتسمو بروحي آفاقها
فصلاة الجماعة واجبة على الرجال، ومرتاد المساجد في ضيافة الرحمن جل جلاله ومن غدا إلى المسجد أو راح أعدّ اللّه تعالى له نزلا في الجنّة كلّما غدا أو راح ، إنّ كلّ إنسانٍ إذا دعي إلى ضيافةٍ استعدّ لها بالغسل والطّيب، واختار لها من اللّباس بحسب نوعها ومنزلة صاحبها، وموقعه هو من الضّيافة، ومن ضيّفه ملوك الدّنيا ليس كمن ضيّفه سائر النّاس، فما ظنّكم بمن ضيّفه ملك الملوك، وربّ العالمين، وخالق النّاس أجمعين؟! ولمّا كان مرتاد المساجد لحضور الجماعة ضيفا على اللّه شرع له من الأعمال والآداب ما يلتزم به ، لحقّ هذه الضّيافة العظيمة، الّتي لا تقاربها ضيافةٌ دنيويّةٌ مهما كانت، وللضّيف فيها من الثّواب الجزيل على قدر التزامه بما شرع اللّه تعالى له في هذه الشّعيرة العظيمة ، ومن تلكم الأعمال والآداب: أن يخلص النّيّة للّه تعالى قبل خروجه إلى الصّلاة، وأن يستحضر عظمتها ومكانتها من الدّين، ومنزلتها عند اللّه عزّ وجلّ ، حتّى تعظم في قلبه، فلا ينازعه فيها مخلوقٌ مهما كان عظيما، ولا يصدّه عنها شغلٌ دنيويٌّ وإن كان كبيرا، وقد جاء عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال " من أتى المسجد لشيءٍ فهو حظّه " رواه أبو داود، وما من شك في أنّ من أتاه للصّلاة فحظّه عظيم ، لمنزلتها عند اللّه تعالى، ولمكانتها من دين الإسلام ، إنّ كثيرا من النّاس يغيب عنهم هذا المعنى المهمّ قبل الخروج إلى المسجد، وهو استحضار عظمة الصلاة عند الخروج إليها ،وذلك لاعتيادهم عليها، ولو وطّنوا أنفسهم وجاهدوها قبيل كلّ صلاةٍ على استحضار مكانتها من الدّين، ومنزلتها عند ربّ العالمين ، لوجدوا فيها أعظم اللذة والرّاحة، كما كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول وجعلت الصلاة قرة عيني ، وممّا يدلّ على عظمة الصّلاة في الدّين ما شرع لها من التّطهّر والوضوء رغم أنّها تتكرّر خمس مرّاتٍ كلّ يوم، ورتب على هذا الوضوء أجورٌ عظيمةٌ من تكفير الخطايا مع كلّ عضوٍ يغسله، وفتح أبواب الجنّة للمتوضّئ إذا أنهى وضوءه، وأتى بالذّكر الوارد عقبه ، وهذا التّطهّر لها ممّا يليق بحقّ هذه الضّيافة العظيمة ، ولذا شرع لها التّزين باللّباس، والطّيب والسّواك لتطهير الفم (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجد) وقال النّبيّ عليه الصّلاة والسلام: " لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك مع كلّ صلاةٍ "رواه الشّيخان ، ومن الاستهانة بالمسجد وبالصّلاة أن يحضرها المصلي بما لا يليق من لباس النّوم أو الرّياضة أو المهنة مع ما تعجّ به من روائح صنعته وحرفته أو نحوها من الألبسة الّتي لا يرضى أن يلبسها له ضيفه، ولا يلبسها هو إذا دعي إلى ضيافة ، فكيف يرفضها في مجلس بيته، ويرضاها في مسجد ربّه؟! وكيف لا يقبلها على نفسه في دعوة البشر، ويقبلها في دعوة ربّ البشر سبحانه وتعالى؟! وجاء النّهي الشّديد عن حضور الجماعة بالرّوائح الكريهة ، لأنّ ذلك ينافي عظمة الضّيافة، ويتأذّى به الملائكة والمؤمنون، روى جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال " من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا وليقعد في بيته " رواه الشّيخان، وفي روايةٍ لمسلمٍ " من أكل البصل والثّوم والكرّاث فلا يقربنّ مسجدنا فإنّ الملائكة تتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم " فلا يحلّ لمسلمٍ أن يحضر المسجد بروائح الثّوم أو البصل أو الدّخان أو نتن جواربه أو ملابسه إذا كان لا ينظّفها، ولا يؤذي المصلّين برائحته، ولو لم يكن في الدّخان سيّئةٌ إلّا أنّ المدخّن يؤذي الملائكة والمصلّين برائحته لكان ذلك رادعا للمبتلى به أن يسعى جهده في الإقلاع عنه ، ومن ابتلي برائحة كريهة في جسده وثوبه أو بخرٍ في فمه فليسعى قبل حضوره إلى المسجد إلى إزالتها بأنواع المطهّرات والرّوائح الطيبة، وإذا خرج من بيته إلى المسجد قدم رجله اليسرى في خروجه ، وأتى بالأذكار الواردة في ذلك ، فإنّها تدحر شيطانه، وتعينه على الخشوع في صلاته ، ومشيه إلى المسجد أفضل من ركوبه ، لما رتّب على الخطو إلى المساجد من رفع الدّرجات، وزيادة الحسنات، وتكفير الخطيئات، قال عليه الصلاة والسلام “ ألا أدلّكم على ما يمحو اللّه به الخطايا ويرفع به الدّرجات؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة فذلكم الرّباط “وفي رواية“ وكلّ خطوةٍ تمشيها إلى الصّلاة صدقةٌ “رواه الشيخان، وهذا الخير العظيم لا يتأتّى إلّا لمن استعدّ للصّلاة قبل دخول وقتها، أو في أوّله، وخرج إلى المسجد مبكّرا، والتّبكير إلى الصّلاة سببٌ لتحصيل عباداتٍ كثيرةٍ تفوت على المتأخّرين عن الصّلاة إلى قرب الإقامة أو بعدها ، قال الحافظ ابن خزيمة رحمه اللّه “ باب ذكر فرح الرّبّ تعالى بمشي عبده إلى المسجد متوضّيا، ثمّ ساق تحته حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: “ لا يتوضّأ أحدٌ فيحسن وضوءه ويسبغه ثمّ يأتي المسجد لا يريد إلّا الصّلاة فيه، إلّا تبشبش اللّه إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته “ فإذا أقيمت الصّلاة وهو يمشي فلا يسرع في مشيه لإدراك تكبيرة الإحرام أو الرّكعة أو الصّلاة، ، روى أبو هريرة رضي اللّه عنه فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول " إذا أقيمت الصّلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السّكينة فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم فأتمّوا " رواه الشّيخان، وفي رواية لمسلم " فإنّ أحدكم إذا كان يعمد إلى الصّلاة فهو في صلاة " وما يفعله كثيرٌ من النّاس من الجري وتسريع الخطّا والجلبة والنّحنحة ورفع الصّوت والضّرب بالأرجل لإدراك الرّكوع ممّا ينافي الوقار والسّكينة، وفيه مخالفةٌ للأحاديث الصّحيحة، مع ما فيه من إزعاجٍ للمصلّين وتشويشٍ عليهم ، فحريٌّ بالمصلّي أن يجتنب ذلك، وأن يبكّر للصّلاة ما استطاع ، ومن كبير الخطأ: تشويش كثير من النّاس على إخوانهم المصلّين بهواتفهم بما يصدر عنها من أصواتٍ متنوّعة، تزعج المصلّين، وتذهب خشوعهم، سواء كانت قرآنا أم أذانا أم دعاء أم غير ذلك ، فإذا كانت تصدر غناء أو موسيقى فالجرم أكبر، والأذيّة أشدّ ، إذ كيف يرضى مسلم بمحرمات يجلبها إلى بيوت اللّه تعالى، مع ما في ذلك من أذيّة الملائكة والمصلّين، فليتّق اللّه تعالى من يتساهلون في ذلك ، فإذا أراد دخول المسجد قدّم رجله اليمنى، وأتى بذكر دخول المسجد، قال أنسٌ رضي اللّه عنه "من السّنّة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى " رواه الحاكم وصححه ، ويحرص على الصّف الأول، وعلى القرب من الإمام ما استطاع، وعلى أن يكون في يمين الصف ، لما رتب على ذلك من الأجور العظيمة، قال عليه الصلاة والسلام " لو يعلم النّاس ما في النداء والصف الأوّل ثمّ لم يجدوا إلّا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التّهجير أي التبكير لاستبقوا إليه " متّفق عليه من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه ، وفي حديث عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " إنّ اللّه وملائكته يصلّون على ميامن الصّفوف " رواه أبو داود ، وإذا أخذ مكانه في المسجد فلا يجلس حتّى يصلّي ركعتين ، لحديث أبي قتادة بن ربعيّ رضي اللّه عنه قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتّى يصلّي ركعتين " رواه الشّيخان ، وهو لا يزال في صلاةٍ ما دام ينتظر الصّلاة، فإن شاء تنفّل أو قرأ القرآن أو اشتغل بالذّكر أو بالدّعاء، ولا يشتغل بأمور الدّنيا أو بالحديث مع غيره وهو منتظرٌ صلاته، ولا يعبث في المسجد بثوبه أو يديه أو ساعته أو جواله، ولا يشبّك بين أصابعه; لحديث كعب بن عجرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: " إذا توضّأ أحدكم فأحسن وضوءه ثمّ خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبّكنّ يديه فإنّه في صلاةٍ " رواه أبو داود ، ولا يرفع صوته بقرآنٍ أو ذكرٍ فيشوّش على غيره ، لما جاء في حديث أبي سعيدٍ رضي اللّه عنه قال " اعتكف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف السّتر وقال : ألا إنّ كلّكم مناجٍ ربّه فلا يؤذينّ بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعضٍ في القراءة أو قال في الصّلاة " رواه أبو داود ، وإذا أقيمت الصّلاة فلا يصلّي إلّا المكتوبة ، لأمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك، ولأنّها هي المقصود من مجيئه للمسجد ، فإذا صلّى أتى بالأذكار بعد انتهاء الصّلاة، والسّنّة أن يجهر بها لما روى الشّيخان عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما: "أنّ رفع الصّوت بالذّكر حين ينصرف النّاس من المكتوبة كان على عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم " فإن كان للصّلاة راتبة بعدية أتى بها في المسجد، وإن صلّاها في بيته فذلك أفضل ، لقول النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: " صلّوا أيّها النّاس في بيوتكم فإنّ أفضل الصّلاة صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة " رواه الشّيخان عن زيد بن ثابتٍ رضي اللّه عنه، وروى مسلمٌ عن جابرٍ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم(إذا قضى أحدكم الصّلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإنّ اللّه جاعلٌ في بيته من صلاته خيرا ) أسأل اللّه تعالى أن يعلّمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علّمنا .
أخي القاريء : إن للمساجد حرمتها عند اللّه تعالى، وواجب على مرتاديها أن يراعوا تلك الحرمة، وأن يلتزموا فيها بآداب الشّريعة، ومن فقد شيئا فلا يسأل عنه في المسجد رجاء أن يجده ، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: " من سمع رجلا ينشد ضالّة في المسجد فليقل: لا ردّها اللّه عليك فإنّ المساجد لم تبن لهذا " رواه مسلم ، ومن تعظيم المساجد تحريم البيع والشّراء فيها وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح اللّه تجارتك " رواه التّرمذيّ ، وكثير من النّاس لا يحلو لهم الحديث عن الدّنيا والبيع والشّراء والتّجارة والعقار والأسهم إلّا في المساجد، وأثناء انتظار الصّلاة، ولا سيّما إذا جلس بجوار شريكه أو قرينه، وذلك من تزيين الشّيطان لهم ، لينقص من أجرهم، ويزيد في إثمهم، فالحذر الحذر من ذلك، فإنّ المساجد ما بنيت لهذا ، ويدخل في معنى ذلك: التّسوّل في المساجد فإن فيه تشويشٌ على المصلين ، وإشغالٌ لهم عن الذّكر، وإلحاحٌ في المسألة، كما هو واقعٌ في هذا الزّمن ، إذ لا يهنأ الواحد منهم حتّى يصيح في النّاس يفصّل حاجته، ويستدرّ عواطفهم، وكلّ ذلك ممّا ينهى عنه في المساجد، وكان ابن عبّاس رضي اللّه عنهما يسبّ المتسوّلين ويقول: لا تشهدون جمعة ولا عيدا إلّا للمسألة والأذى... وأمر أخر مهم من يسبق الإمام أو يسلم مع الإمام أو قبله ، فالواجب أن يسلم بعد الإمام قال عليه الصلاة والسلام ( أما يخشى الذي يرفع راسه قبل الإمام أن يحول الله راسه راس حمار أو يجعل صورته صورة حمار إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ) .
أخي القاريء : تلك آداب عظيمة شرعت لمن أراد الخروج إلى الصلاة، وكان من روّاد المساجد; ليكتمل أجره، ويعظم جزاؤه، فحري بنا وبكلّ مسلمٍ أن يتعلمها ويعمل بها ، التزاما بالسّنّة، وطلبا للأجر من اللّه تعالى ، هذا وصلى وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، صلى عليك الله يا نبع الهدى ، ما طار طير في السماء وغرّدا ، يا خير رسل الله قدرك قد سما ، فاشفّع لمن صلى عليك وسلما ...