صلاة المسافر
مشروعية القصر.
القصر جائز بالكتاب والسنة.
أما بالكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] والقصر جائز سواء في حالة الخوف أم الأمن، لكن تعليق القصر على الخوف في الآية، كان لتقرير الحالة الواقعة. لأن غالب أسفار النبي ﷺ لم تخل منه.
وأما السنة: فقد تواترت الأخبار أن رسول الله ﷺ كان يقصر في أسفاره حاجاً ومعتمراً وغازياً محارباً، وقال ابن عمر: "صحبت النبي ﷺ، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك" متفق عليه.
والقصر: هو اختصار الصلاة الرباعية إلى ركعتين.
والذي يقصر إجماعاً: هو الصلاة الرباعية من ظهر وعصر وعشاء، دون الفجر والمغرب.
ذهب الحنفية إلى أن القصر واجب: القصر واجب - عزيمة، وفرض المسافر في كل صلاة رباعية ركعتان، لا تجوز له الزيادة عليهما عمداً، ويجب سجود السهو إن كان سهواً، فإن أتم الرباعية وصلى أربعاً، وقد قعد في الركعة الثانية مقدار التشهد، أجزأته الركعتان عن فرضه، وكانت الركعتان الأخريان له نافلة، ويكون مسيئاً، وإن لم يقعد في الثانية مقدار التشهد، بطلت صلاته، لاختلاط النافلة بها قبل إكمالها.
وذهب المالكية إلى أن: القصر سنة مؤكدة، لفعل النبي ﷺ، فإنه لم يصح عنه في أسفاره أنه أتم الصلاة قط".
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن: القصر رخصة على سبيل التخيير، فللمسافر أن يتم أو يقصر، والقصر أفضل من الإتمام، لأنه صلى الله وعليه وسلم داوم عليه، وكذا الخلفاء الراشدون من بعده.
الحكمة من القصر:
هو دفع المشقة والحرج الذي قد يتعرض له المسافر غالباً، والتيسير عليه في حقوق الله تعالى، والترغيب في أداء الفرائض، وعدم التنفير من القيام بالواجب، فلا يبقى لمقصر أو مهمل حجة أو ذريعة في ترك فرض الصلاة.
وسبب مشروعية القصر: هو السفر الطويل، المباح عند الجمهور غير الحنفية. والكلام عن السفر الذي تتغير به الأحكام الشرعية يتطلب بحث أمور أربعة وهي: المسافة التي يجوز فيها القصر، نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة: المباح أم أي سفر، الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر (أول السفر)، مقدار الزمان الذي يقصر فيه إذا أقام المسافر في موضع.
المسافة التي يجوز فيها القصر:
اختلف الفقهاء في تقدير مسافة التي يقصر فيها، فذهب الحنفية إلى أن: أقل ما تقصر فيه الصلاة مسيرة ثلاثة أيام ولياليها من أقصر أيام السنة في البلاد المعتدلة(1)، بسير الإبل ومشي الأقدام، ولا يشترط سفر كل يوم إلى الليل، بل أن يسافر في كل يوم منها من الصباح إلى الزوال (الظهر)، فالمعتبر هو السير الوسط مع الاستراحات العادية، فلو أسرع وقطع تلك المسافة في أقل من ذلك كما في وسائل المواصلات الحديثة، جاز له القصر. فإذا قصد الإنسان موضعاً بينه وبين مقصده مسيرة ثلاثة أيام، جاز له القصر، فإن لم يقصد موضعاً، وطاف الدنيا من غير قصد إلى قطع مسيرة ثلاثة أيام لا يترخص بالقصر.
والتقدير بثلاث مراحل قريب من التقدير بثلاثة أيام، لأن المعتاد من السير في كل يوم مرحلة واحدة، خصوصاً في أقصر أيام السنة. ولا يصح القصر في أقل من هذه المسافة، كما لا يصح التقدير عندهم بالفراسخ(2) على المعتمد الصحيح.
والمعتبر في البحر والجبل: ما يناسبه أو ما يليق بحاله لقطع المسافة، ففي البحر تعتبر تلك المسافة بحسب اعتدال الريح، لا ساكنة ولا عالية، وفي الجبل يعتبر السير فيه بثلاثة أيام ولياليها بحسب طبيعته، وإن كانت تلك المسافة في السهل تقطع بما دونها.
وذهب الجمهور المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن: السفر الطويل المبيح للقصر بالزمن : يومان معتدلان أو مرحلتان بسير الأثقال ودبيب الأقدام، أي سير الإبل المثقلة بالأحمال على المعتاد من سير وحط وترحال وأكل وشرب وصلاة كالمسافة بين جدة ومكة أو الطائف ومكة أو من عسفان إلى مكة. ويقدر بالمسافة ذهاباً: بأربعة برد أو ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً هاشمياً، والميل: ستة آلاف ذراع(3)، كما ذكر الشافعية والحنابلة، وقال المالكية على الصحيح: الميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع، وتقدر بحوالي (89كم) وعلى وجه الدقة: 88.704 كم ثمان وثمانين كيلو وسبعمائة وأربعة أمتار، ويقصر حتى لو قطع تلك المسافة بساعة واحدة، كالسفر بالطائرة والسيارة ونحوها، لأنه صدق عليه أنه سافر أربعة برد.
والمسافة في البحر كالمسافة في البر.
_________________________
(1) أي البلاد التي يمكن قطع المرحلة المذكورة في معظم اليوم من أقصر أيامها، فلا يرد أن أقصر أيام السنة في بلاد البلغار قد يكون ساعة أو أكثر أو أقل.
(2) الفرسخ : ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع.
(3) الذراع : أربعة وعشرون أصبعاً كما ذكر الشافعية والحنابلة، أو 32 أصبعاً، والذراع : 46.2سم، والأصبح : ست شعيرات معتدلات، وتساوي 1.925 سم.
واستثنى المالكية خلافاً لغيرهم (الجمهور) من هذه المسافة أهل مكة ومنى ومزدلفة والمُحَصَّب إذا خرجوا في الحج للوقوف بعرفة، فإنه عملاً بالسنة يسن لهم القصر في الذهاب والإياب إذا بقي عليهم شيء من أعمال الحج التي تؤدى في غير وطنهم، وإلا بأن وصلوا وطنهم أتموا الصلاة.
نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة:
ذهب الحنفية إلى أنه: يجوز القصر في كل سفر، سواء أكان قربة أم مباحاً أم معصية، فيجوز القصر لقاطع الطريق ونحوه ممن كان عاصياً بسفره. العاصي والمطيع في سفرهما سواء في الرخصة.
وذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه: لا تباح الرخص المختصة بالسفر من القصر والجمع والفطر والمسح ثلاثاً والصلاة على الراحلة تطوعاً في سفر المعصية، كقطع الطريق، والتجارة في الخمر والمحرمات، وهذا هو العاصي بسفره أي الذي أنشأ سفراً لأجل المعصية أو يقصد محلاً لفعل محرم، فلا يقصر الصلاة، ويحرم عليه القصر.
وذكر المالكية أنه يكره القصر للاهٍ بالسفر.
أما العاصي في السفر: وهو الذي قصد سفراً لغرض مشروع، لكنه ارتكب في أثناء السفر معصية كزنا أو سرقة أو غصب، أو قذف أو غيبة، فيجوز له الترخص من قصر وغيره، لأنه لم يقصد السفر لذلك أي للمعصية، وإنما لغرض مشروع، فهو كالمقيم العاصي.
الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر:
لا تكفي نية السفر لقصر الصلاة قبل مباشرة السفر وتجاوز حدود البلد، بل لابد من مباشرة السفر حتى يحق له القصر والفطر، وقد اتفق الفقهاء على أن أول السفر الذي يجوز به القصر ونحوه: هو أن يخرج المسافر من بيوت البلد التي خرج منها ويجعلها وراء ظهره، أو يجاوز العمران من الجانب الذي خرج منه، وإن لم يجاوزها من جانب آخر، لأن الإقامة تتعلق بدخولها، فيتعلق السفر بالخروج عنها.
ولا يُتم صلاته حتى يدخل أول بيوت البلد الذي يقصده للإقامة فيه.
ولا يزال المسافر على حكم السفر حتى ينوي الإقامة مدة معينة.
مقدار الزمان الذي يقصر فيه إذا أقام المسافر في موضع:
ذهب الحنفية إلى أنه: يصير المسافر مقيماً، ويمتنع عليه القصر إذا نوى الإقامة في بلد خمسة عشر يوماً، فصاعداً، فإن نوى تلك المدة، لزمه الإتمام، وإن نوى أقل من ذلك قصر.
وإن كان ينتظر قضاء حاجة معينة، له القصر ولو طال الترقب سنين، فمن دخل بلداً، ولم ينو أن يقيم فيه خمسة عشر يوماً، وإنما يترقب السفر، ويقول : أخرج غداً أو بعد غد مثلاً، حتى بقي على ذلك سنين، صلى ركعتين أي قصر، لأن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر، وكان يقصر، وروي عن جماعة من الصحابة مثل ذلك.
وإذا دخل العسكر أرض الحرب، فنووا الإقامة بها خمسة عشر يوماً، أو حاصروا فيها مدينة أو حصناً، قصروا، ولم يتموا الصلاة، لعدم صحة النية، لأن الداخل قلق غير مستقر، فهو متردد بين أن يَهزِم العدوّ فيَقر، أو يُهزَم من عدوه فيفر.
وذهب المالكية والشافعية إلى أنه: إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع، أتم صلاته، لأن الله تعالى أباح القصر بشرط الضرب في الأرض، والمقيم والعازم على الإقامة غير ضارب في الأرض، بينت أن ما دون الأربع لا يقطع السفر.
وقدر المالكية المدة المذكورة بعشرين صلاة في مدة الإقامة، فإذا نقصت عن ذلك قصر.
ولم يحسب المالكية والشافعية يومي الدخول والخروج لأن في الأول حط الأمتعة، وفي الثاني الرحيل، وهما من أشغال السفر.
وذهب الحنابلة إلى أنه: إذا نوى أربعة أيام أو أكثر من عشرين صلاة، أتم، لحديث جابر وابن عباس أن النبي ﷺ قدم مكة صبيحة رابعة ذي الحجة، فأقام بها الرابع والخامس والسادس، وصلى الصبح في اليوم الثامن، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام.
ويحسب من المدة عند الحنابلة يوم الدخول والخروج.
فإن كان ينتظر قضاء حاجة يتوقعها كل وقت أو يرجو نجاحها أو جهاد عدو أو على أهبة السفر يوماً فيوماً، جاز له القصر عند المالكية والحنابلة، مهما طالت المدة، ما لم ينو الإقامة، كما قرر الحنفية.
وقال الشافعية: له القصر ثمانية عشر يوماً غير يومي الدخول والخروج، لأنه ﷺ أقامها بمكة عام الفتح لحرب هوازن، يقصر الصلاة.
شروط القصر:
- الشرط الأول: أن يكون السفر طويلاً مقدراً بمسيرة مرحلتين أو يومين أو ستة عشر فرسخاً عند الجمهور، أو ثلاث مراحل أو ثلاثة أيام بلياليها عند الحنفية.
-الشرط الثاني: أن يكون السفر مباحاً غير محرم أو محظور كالسفر للسرقة أو لقطع الطريق، نحو ذلك، في رأي الجمهور غير الحنفية. فإن قصر المرء في سفر المعصية لا تنعقد صلاته عند الشافعية والحنابلة، لأنه فعل ما يعتقد تحريمه كمن صلى وهو يعتقد أنه محدث، ويصح القصر مع الإثم عند المالكية.
ولا يقصر عند الحنابلة لسفر مكروه، ويقصر عند المالكية والشافعية.
ويرى الحنفية: أنه يجوز القصر في السفر المحرم والمكروه والمباح ويقصر لسفر التجارة والتنزه والتفرج، ولزيارة المساجد والآثار، والقبور، وهو الصحيح عند الحنابلة في زيارة القبور.
-الشرط الثالث: مجاوزة العمران من موضع إقامته.
ذهب الحنفية إلى أنه: أن يجاوز بيوت البلد التي يقيم فيها من الجهة التي خرج منها، وإن لم يجاوزها من جانب آخر. وأن يجاوز كل البيوت ولو كانت متفرقة متى كان أصلها من البلد، وأن يجاوز ما حول البلد من مساكن، والقرى المتصلة بالبلد. ويشترط أن يجاوز الساحة (الفناء) المتصلة بموضع إقامته: وهو المكان المعد لصالح السكان كركض الدواب ودفن الموتى وإلقاء التراب.
ولا يشترط أن تغيب البيوت عن بصره، ولا مجاوزة البيوت الخربة، ولا مجاوزة البساتين، لأنها لا تعتبر من العمران، وإن اتصلت بالبناء أو سكنها أهل البلدة.
وذهب المالكية إلى أن: الساكن في مدينة أو بلد أو قرية ولو لا جمعة فيها، لا يقصر إلا إذا جاوز بنيانها والفضاء الذي حولها والبساتين المتصلة بها ولو حكماً : بأن يرتفق أو ينتفع سكانها بها بنار أو خبز أو طبخ، والمسكونة بأهلها ولو في بعض العام. ولا يشترط مجاوزة المزارع والبساتين المنفصلة، أو غير المسكونة في وقت من العام.
وذهب الشافعية إلى أنّه: إن كان للبلد أو القرية سور، فأول السفر مجاوزة السور، وإن كان وراءه عمارة.
وإن لم يكن للبلد أو القرية سور: فأول السفر مجاوزة آخر العمران، وإن تخلله نهر أو بستان أو خراب، حتى لا يبقى بيت متصل أو منفصل عن محل الإقامة، ولا يشترط مجاوزة الخراب المهجور الخارج عن العمران، لأنه ليس محل إقامة، كما لا يشترط مجاوزة البساتين والمزارع، وإن اتصلت بما سافر منه. ولابد من مجاوزة المقابر المتصلة بالقرية التي لا سور لها.
ولو كان للبلد محال، كل محلة منفردة عن الأخرى، كبغداد في الماضي، فمتى خرج من محلته، أبيح له القصر إذا فارق أهله. وإن كان بعضها متصلاً ببعض كاتصال أحياء المدن المعاصرة، لم يقصر حتى يفارق جميعها.
ولو كانت قريتان متدانيتين (متقاربتين)، واتصل بناء إحداهما بالأخرى، فهما كالواحدة، وإن لم يتصل بناؤهما، فلكل قرية حكم نفسها.
والملاح الذي يسير بسفينته وليس له بيت سوى سفينته، فيها أهله وتنوره وحاجته، لا يباح له الترخص.
الشرط الرابع الاستقلال بالرأي: فمن كان تابعاً غيره ممن هو مالك أمره كالزوجة مع زوجها، والجندي مع أميره، والخادم مع سيده والطالب مع أستاذه، ولا يعرف كل واحد منهم مقصده، لا يقصر، لأن شرط قصد موضع معين لم يتحقق. وهذا الشرط عند الشافعية مقيد بما قبل قطع مسافة القصر، فإن قطعوا مسافة القصر، قصروا، وإن لم يقصر المتبوعون لتيقن طول سفرهم.
شروط جمع التقديم
الشرط الأول: - نية الجمع: أي أن ينوي جمع التقديم، في أول الصلاة الأولى، وتجوز في أثنائها في الأظهر، ولو مع السلام منها.
الشرط الثاني:- الترتيب أي البُداءة بالأولى صاحبة الوقت : وهو أن يقدم الأولى، ثم يصلي الثانية، لأن الوقت للأولى، وإنما يفعل الثانية تبعاً للأولى، فلابد من تقديم المتبوع، فلو صلاهما مبتدئاً بالأولى، فبان فسادها بفوات شرط أو ركن، فسدت الثانية أيضاً، لانتفاء شرطها من البداءة بالأولى، ولكن تنعقد الثانية نافلة على الصحيح.
الشرط الثالث:- الموالاة أي التتابع بألا يفصل بينهما فاصل طويل، لأن الجمع يجعلهما كصلاة واحدة، فوجب الولاء كركعات الصلاة أي فلا يفرق بينهما، كما لا يجوز أن يفرق بين الركعات في صلاة واحدة، فإن فصل بينهما بفصل طويل ولو بعذر كسهو وإغماء، بطل الجمع، ووجب تأخير الصلاة الثانية إلى وقتها ، لفوات شرط الجمع، وإن فصل بينهما بفصل يسير، لم يضر، كالفصل بينهما بالأذان والإقامة والطهارة، لما في الصحيحين عن أسامة: "أن النبي ﷺ لما جمع بنمرة، أقام للصلاة بينهما".
ويعرف طول الفصل بالعرف، لأنه لا ضابط له في الشرع ولا في اللغة.
وللمتيمم الجمع بين الصلاتين على الصحيح، كالمتوضئ، فلا يضر تخلل طلب خفيف للماء، لأن ذلك من مصلحة الصلاة، فأشبه الإقامة، بل أولى، لأنه شرط دونها.
الشرط الرابع:- دوام السفر إلى الإحرام بالصلاة الثانية، حتى ولو انقطع سفره بعد ذلك أثناءها. أما إذا انقطع سفره قبل الشروع في الثانية، فلا يصح الجمع، لزوال السبب.
الشرط الخامس:- بقاء وقت الصلاة الأولى يقيناً إلى عقد الصلاة الثانية.
الشرط السادس:- ظن صحة الصلاة الأولى : فلو جمع العصر مع الجمعة في مكان تعددت فيه لغير حاجة، وشك في السبق والمعية، لا يصح جمع العصر معها جمع تقديم.
شروط جمع التأخير:
الشرط الأول:- نية التأخير قبل خروج وقت الصلاة الأولى، ولو بقدر ركعة : أي بزمن لو ابتدئت فيه، كانت أداء. وإلا فيعصي، وتكون قضاء. ودليل اشتراط النية : أنه قد يؤخر للجمع، وقد يؤخر لغيره، فلابد من نية يتميز بها التأخير المشروع عن غيره.
الشرط الثاني:- دوام السفر إلى تمام الصلاة الثانية، فإن لم يدم إلى ذلك بأن أقام ولو في أثنائها، صارت الأولى (وهي الظهر أو المغرب) قضاء، لأنها تابعة للثانية في الأداء للعذر، وقد زال قبل تمامها.
أما الترتيب: فليس بواجب، لأن وقت الثانية وقت الأولى، فجاز البداية بما شاء منهما. وأما التتابع: فلا يجب أيضاً، لأن الأولى مع الثانية كصلاة فائتة مع صلاة حاضرة، فجاز التفريق بينهما. وإنما الترتيب والتتابع سنة، وليس بشرط.
سنة الصلاة في السفر: فإذا جمع الظهر والعصر قدم سنة الظهر التي قبلها، وله تأخيرها، سواء أجمع تقديماً أم تأخيراً، وله توسيطها إن جمع تأخيراً، سواء قدم الظهر أم العصر. وإذا جمع المغرب والعشاء، أخر سنتهما، وله توسيط سنة المغرب إن جمع تأخيراً، وقدم المغرب، وتوسيط سنة العشاء إن جمع تأخيراً وقدم العشاء. وما سوى ذلك ممنوع.
حالات الجمع عند الحنابلة: يجوز جمع التقديم والتأخير في ثمان حالات:
إحداها:- السفر الطويل المبيح للقصر.
الثانية:- المرض: الذي يؤدي إلى مشقة وضعف بترك الجمع.
الثالثة:- الإرضاع: يجوز الجمع لمرضع، لمشقة تطهير النجاسة لكل صلاة، فهي كالمريض.
الرابعة:- العجز عن الطهارة بالماء أو التيمم لكل صلاة : يجوز الجمع لعاجز عنهما، دفعاً للمشقة، لأنه كالمسافر والمريض.
الخامسة:- العجز عن معرفة الوقت: يجوز الجمع لعاجز عن ذلك كالأعمى.
السادسة:- الاستحاضة ونحوها: يجوز الجمع لمستحاضة ونحوها كصاحب سلس بول أو مذي أو رعاف دائم ونحوه ومن به سلس البول ونحوه في معناه.
السابعة والثامنة: العذر أو الشغل: يجوز الجمع لمن له شغل، أو عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة، كخوف على نفسه أو حرمته أو ماله، أو تضرر في معيشة يحتاجها بترك الجمع ونحوه. وهذا منفذ يلجأ إليه العمال وأصحاب المزارع للسقي في وقت النوبة (أو الدور).
والجمع للمطر: جائز بين المغرب والعشاء.
-ولا يجوز الجمع بين الظهر والعصر، فلم يرد إلا في المغرب والعشاء. والجمع للمطر يكون في وقت الأولى، لفعل السلف، ولأن تأخير الأولى إلى وقت الثانية يفضي إلى لزوم المشقة والخروج في الظلمة، أو طول الانتظار في المسجد إلى دخول وقت العشاء. وإن اختار الناس تأخير الجمع جاز. والمطر المبيح للجمع: هو ما يبل الثياب، وتلحق المشقة بالخروج فيه.
والثلج والبرد كالمطر في ذلك. أما الطل والمطر الخفيف الذي لا يبل الثياب فلا يبيح.
وأما الوحل بمجرده فهو عذر، لأن المشقة تلحق بذلك في النعال والثياب، كما تلحق بالمطر، لأن الوحل يلوث الثياب والنعال، ويعرض الإنسان للزلق فيتأذى به بنفسه وثيابه، وذلك أعظم من البلل.
وأما الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة : فيبيح الجمع، لأن ذلك عذر في الجمعة والجماعة، روى نافع عن ابن عمر، قال: "كان رسول الله ﷺ ينادي مناديه في الليلة المطيرة أو الليلة الباردة ذات الريح: صلوا في رحالكم" رواه ابن ماجه.
وهذه الأعذار كلها تبيح الجمع تقديماً وتأخيراً، حتى لمن يصلي في بيته، أو يصلي في مسجد ولو كان طريقه مسقوفاً، ولمقيم في المسجد ونحوه كمن بينه وبين المسجد خطوات يسيرة، ولو لم ينله إلا مشقة يسيرة.
وفعل الأرفق من جمع التقديم أو التأخير لمن يباح له أفضل بكل حال، فإن استويا فالتأخير أفضل لأنه أحوط، وفيه خروج من الخلاف، وعمل بالأحاديث كلها.
لكن الجمع في أثناء الحج يكون تقديماً بين الظهر والعصر في عرفة، وتأخيراً في المزدلفة بين المغرب والعشاء، لفعله ﷺ، لاشتغاله وقت العصر بعرفة بالدعاء، ووقت المغرب ليلة مزدلفة بالسير إليها.
مشروعية القصر.
القصر جائز بالكتاب والسنة.
أما بالكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] والقصر جائز سواء في حالة الخوف أم الأمن، لكن تعليق القصر على الخوف في الآية، كان لتقرير الحالة الواقعة. لأن غالب أسفار النبي ﷺ لم تخل منه.
وأما السنة: فقد تواترت الأخبار أن رسول الله ﷺ كان يقصر في أسفاره حاجاً ومعتمراً وغازياً محارباً، وقال ابن عمر: "صحبت النبي ﷺ، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك" متفق عليه.
والقصر: هو اختصار الصلاة الرباعية إلى ركعتين.
والذي يقصر إجماعاً: هو الصلاة الرباعية من ظهر وعصر وعشاء، دون الفجر والمغرب.
ذهب الحنفية إلى أن القصر واجب: القصر واجب - عزيمة، وفرض المسافر في كل صلاة رباعية ركعتان، لا تجوز له الزيادة عليهما عمداً، ويجب سجود السهو إن كان سهواً، فإن أتم الرباعية وصلى أربعاً، وقد قعد في الركعة الثانية مقدار التشهد، أجزأته الركعتان عن فرضه، وكانت الركعتان الأخريان له نافلة، ويكون مسيئاً، وإن لم يقعد في الثانية مقدار التشهد، بطلت صلاته، لاختلاط النافلة بها قبل إكمالها.
وذهب المالكية إلى أن: القصر سنة مؤكدة، لفعل النبي ﷺ، فإنه لم يصح عنه في أسفاره أنه أتم الصلاة قط".
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن: القصر رخصة على سبيل التخيير، فللمسافر أن يتم أو يقصر، والقصر أفضل من الإتمام، لأنه صلى الله وعليه وسلم داوم عليه، وكذا الخلفاء الراشدون من بعده.
الحكمة من القصر:
هو دفع المشقة والحرج الذي قد يتعرض له المسافر غالباً، والتيسير عليه في حقوق الله تعالى، والترغيب في أداء الفرائض، وعدم التنفير من القيام بالواجب، فلا يبقى لمقصر أو مهمل حجة أو ذريعة في ترك فرض الصلاة.
وسبب مشروعية القصر: هو السفر الطويل، المباح عند الجمهور غير الحنفية. والكلام عن السفر الذي تتغير به الأحكام الشرعية يتطلب بحث أمور أربعة وهي: المسافة التي يجوز فيها القصر، نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة: المباح أم أي سفر، الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر (أول السفر)، مقدار الزمان الذي يقصر فيه إذا أقام المسافر في موضع.
المسافة التي يجوز فيها القصر:
اختلف الفقهاء في تقدير مسافة التي يقصر فيها، فذهب الحنفية إلى أن: أقل ما تقصر فيه الصلاة مسيرة ثلاثة أيام ولياليها من أقصر أيام السنة في البلاد المعتدلة(1)، بسير الإبل ومشي الأقدام، ولا يشترط سفر كل يوم إلى الليل، بل أن يسافر في كل يوم منها من الصباح إلى الزوال (الظهر)، فالمعتبر هو السير الوسط مع الاستراحات العادية، فلو أسرع وقطع تلك المسافة في أقل من ذلك كما في وسائل المواصلات الحديثة، جاز له القصر. فإذا قصد الإنسان موضعاً بينه وبين مقصده مسيرة ثلاثة أيام، جاز له القصر، فإن لم يقصد موضعاً، وطاف الدنيا من غير قصد إلى قطع مسيرة ثلاثة أيام لا يترخص بالقصر.
والتقدير بثلاث مراحل قريب من التقدير بثلاثة أيام، لأن المعتاد من السير في كل يوم مرحلة واحدة، خصوصاً في أقصر أيام السنة. ولا يصح القصر في أقل من هذه المسافة، كما لا يصح التقدير عندهم بالفراسخ(2) على المعتمد الصحيح.
والمعتبر في البحر والجبل: ما يناسبه أو ما يليق بحاله لقطع المسافة، ففي البحر تعتبر تلك المسافة بحسب اعتدال الريح، لا ساكنة ولا عالية، وفي الجبل يعتبر السير فيه بثلاثة أيام ولياليها بحسب طبيعته، وإن كانت تلك المسافة في السهل تقطع بما دونها.
وذهب الجمهور المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن: السفر الطويل المبيح للقصر بالزمن : يومان معتدلان أو مرحلتان بسير الأثقال ودبيب الأقدام، أي سير الإبل المثقلة بالأحمال على المعتاد من سير وحط وترحال وأكل وشرب وصلاة كالمسافة بين جدة ومكة أو الطائف ومكة أو من عسفان إلى مكة. ويقدر بالمسافة ذهاباً: بأربعة برد أو ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً هاشمياً، والميل: ستة آلاف ذراع(3)، كما ذكر الشافعية والحنابلة، وقال المالكية على الصحيح: الميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع، وتقدر بحوالي (89كم) وعلى وجه الدقة: 88.704 كم ثمان وثمانين كيلو وسبعمائة وأربعة أمتار، ويقصر حتى لو قطع تلك المسافة بساعة واحدة، كالسفر بالطائرة والسيارة ونحوها، لأنه صدق عليه أنه سافر أربعة برد.
والمسافة في البحر كالمسافة في البر.
_________________________
(1) أي البلاد التي يمكن قطع المرحلة المذكورة في معظم اليوم من أقصر أيامها، فلا يرد أن أقصر أيام السنة في بلاد البلغار قد يكون ساعة أو أكثر أو أقل.
(2) الفرسخ : ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع.
(3) الذراع : أربعة وعشرون أصبعاً كما ذكر الشافعية والحنابلة، أو 32 أصبعاً، والذراع : 46.2سم، والأصبح : ست شعيرات معتدلات، وتساوي 1.925 سم.
واستثنى المالكية خلافاً لغيرهم (الجمهور) من هذه المسافة أهل مكة ومنى ومزدلفة والمُحَصَّب إذا خرجوا في الحج للوقوف بعرفة، فإنه عملاً بالسنة يسن لهم القصر في الذهاب والإياب إذا بقي عليهم شيء من أعمال الحج التي تؤدى في غير وطنهم، وإلا بأن وصلوا وطنهم أتموا الصلاة.
نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة:
ذهب الحنفية إلى أنه: يجوز القصر في كل سفر، سواء أكان قربة أم مباحاً أم معصية، فيجوز القصر لقاطع الطريق ونحوه ممن كان عاصياً بسفره. العاصي والمطيع في سفرهما سواء في الرخصة.
وذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه: لا تباح الرخص المختصة بالسفر من القصر والجمع والفطر والمسح ثلاثاً والصلاة على الراحلة تطوعاً في سفر المعصية، كقطع الطريق، والتجارة في الخمر والمحرمات، وهذا هو العاصي بسفره أي الذي أنشأ سفراً لأجل المعصية أو يقصد محلاً لفعل محرم، فلا يقصر الصلاة، ويحرم عليه القصر.
وذكر المالكية أنه يكره القصر للاهٍ بالسفر.
أما العاصي في السفر: وهو الذي قصد سفراً لغرض مشروع، لكنه ارتكب في أثناء السفر معصية كزنا أو سرقة أو غصب، أو قذف أو غيبة، فيجوز له الترخص من قصر وغيره، لأنه لم يقصد السفر لذلك أي للمعصية، وإنما لغرض مشروع، فهو كالمقيم العاصي.
الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر:
لا تكفي نية السفر لقصر الصلاة قبل مباشرة السفر وتجاوز حدود البلد، بل لابد من مباشرة السفر حتى يحق له القصر والفطر، وقد اتفق الفقهاء على أن أول السفر الذي يجوز به القصر ونحوه: هو أن يخرج المسافر من بيوت البلد التي خرج منها ويجعلها وراء ظهره، أو يجاوز العمران من الجانب الذي خرج منه، وإن لم يجاوزها من جانب آخر، لأن الإقامة تتعلق بدخولها، فيتعلق السفر بالخروج عنها.
ولا يُتم صلاته حتى يدخل أول بيوت البلد الذي يقصده للإقامة فيه.
ولا يزال المسافر على حكم السفر حتى ينوي الإقامة مدة معينة.
مقدار الزمان الذي يقصر فيه إذا أقام المسافر في موضع:
ذهب الحنفية إلى أنه: يصير المسافر مقيماً، ويمتنع عليه القصر إذا نوى الإقامة في بلد خمسة عشر يوماً، فصاعداً، فإن نوى تلك المدة، لزمه الإتمام، وإن نوى أقل من ذلك قصر.
وإن كان ينتظر قضاء حاجة معينة، له القصر ولو طال الترقب سنين، فمن دخل بلداً، ولم ينو أن يقيم فيه خمسة عشر يوماً، وإنما يترقب السفر، ويقول : أخرج غداً أو بعد غد مثلاً، حتى بقي على ذلك سنين، صلى ركعتين أي قصر، لأن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر، وكان يقصر، وروي عن جماعة من الصحابة مثل ذلك.
وإذا دخل العسكر أرض الحرب، فنووا الإقامة بها خمسة عشر يوماً، أو حاصروا فيها مدينة أو حصناً، قصروا، ولم يتموا الصلاة، لعدم صحة النية، لأن الداخل قلق غير مستقر، فهو متردد بين أن يَهزِم العدوّ فيَقر، أو يُهزَم من عدوه فيفر.
وذهب المالكية والشافعية إلى أنه: إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع، أتم صلاته، لأن الله تعالى أباح القصر بشرط الضرب في الأرض، والمقيم والعازم على الإقامة غير ضارب في الأرض، بينت أن ما دون الأربع لا يقطع السفر.
وقدر المالكية المدة المذكورة بعشرين صلاة في مدة الإقامة، فإذا نقصت عن ذلك قصر.
ولم يحسب المالكية والشافعية يومي الدخول والخروج لأن في الأول حط الأمتعة، وفي الثاني الرحيل، وهما من أشغال السفر.
وذهب الحنابلة إلى أنه: إذا نوى أربعة أيام أو أكثر من عشرين صلاة، أتم، لحديث جابر وابن عباس أن النبي ﷺ قدم مكة صبيحة رابعة ذي الحجة، فأقام بها الرابع والخامس والسادس، وصلى الصبح في اليوم الثامن، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام.
ويحسب من المدة عند الحنابلة يوم الدخول والخروج.
فإن كان ينتظر قضاء حاجة يتوقعها كل وقت أو يرجو نجاحها أو جهاد عدو أو على أهبة السفر يوماً فيوماً، جاز له القصر عند المالكية والحنابلة، مهما طالت المدة، ما لم ينو الإقامة، كما قرر الحنفية.
وقال الشافعية: له القصر ثمانية عشر يوماً غير يومي الدخول والخروج، لأنه ﷺ أقامها بمكة عام الفتح لحرب هوازن، يقصر الصلاة.
شروط القصر:
- الشرط الأول: أن يكون السفر طويلاً مقدراً بمسيرة مرحلتين أو يومين أو ستة عشر فرسخاً عند الجمهور، أو ثلاث مراحل أو ثلاثة أيام بلياليها عند الحنفية.
-الشرط الثاني: أن يكون السفر مباحاً غير محرم أو محظور كالسفر للسرقة أو لقطع الطريق، نحو ذلك، في رأي الجمهور غير الحنفية. فإن قصر المرء في سفر المعصية لا تنعقد صلاته عند الشافعية والحنابلة، لأنه فعل ما يعتقد تحريمه كمن صلى وهو يعتقد أنه محدث، ويصح القصر مع الإثم عند المالكية.
ولا يقصر عند الحنابلة لسفر مكروه، ويقصر عند المالكية والشافعية.
ويرى الحنفية: أنه يجوز القصر في السفر المحرم والمكروه والمباح ويقصر لسفر التجارة والتنزه والتفرج، ولزيارة المساجد والآثار، والقبور، وهو الصحيح عند الحنابلة في زيارة القبور.
-الشرط الثالث: مجاوزة العمران من موضع إقامته.
ذهب الحنفية إلى أنه: أن يجاوز بيوت البلد التي يقيم فيها من الجهة التي خرج منها، وإن لم يجاوزها من جانب آخر. وأن يجاوز كل البيوت ولو كانت متفرقة متى كان أصلها من البلد، وأن يجاوز ما حول البلد من مساكن، والقرى المتصلة بالبلد. ويشترط أن يجاوز الساحة (الفناء) المتصلة بموضع إقامته: وهو المكان المعد لصالح السكان كركض الدواب ودفن الموتى وإلقاء التراب.
ولا يشترط أن تغيب البيوت عن بصره، ولا مجاوزة البيوت الخربة، ولا مجاوزة البساتين، لأنها لا تعتبر من العمران، وإن اتصلت بالبناء أو سكنها أهل البلدة.
وذهب المالكية إلى أن: الساكن في مدينة أو بلد أو قرية ولو لا جمعة فيها، لا يقصر إلا إذا جاوز بنيانها والفضاء الذي حولها والبساتين المتصلة بها ولو حكماً : بأن يرتفق أو ينتفع سكانها بها بنار أو خبز أو طبخ، والمسكونة بأهلها ولو في بعض العام. ولا يشترط مجاوزة المزارع والبساتين المنفصلة، أو غير المسكونة في وقت من العام.
وذهب الشافعية إلى أنّه: إن كان للبلد أو القرية سور، فأول السفر مجاوزة السور، وإن كان وراءه عمارة.
وإن لم يكن للبلد أو القرية سور: فأول السفر مجاوزة آخر العمران، وإن تخلله نهر أو بستان أو خراب، حتى لا يبقى بيت متصل أو منفصل عن محل الإقامة، ولا يشترط مجاوزة الخراب المهجور الخارج عن العمران، لأنه ليس محل إقامة، كما لا يشترط مجاوزة البساتين والمزارع، وإن اتصلت بما سافر منه. ولابد من مجاوزة المقابر المتصلة بالقرية التي لا سور لها.
ولو كان للبلد محال، كل محلة منفردة عن الأخرى، كبغداد في الماضي، فمتى خرج من محلته، أبيح له القصر إذا فارق أهله. وإن كان بعضها متصلاً ببعض كاتصال أحياء المدن المعاصرة، لم يقصر حتى يفارق جميعها.
ولو كانت قريتان متدانيتين (متقاربتين)، واتصل بناء إحداهما بالأخرى، فهما كالواحدة، وإن لم يتصل بناؤهما، فلكل قرية حكم نفسها.
والملاح الذي يسير بسفينته وليس له بيت سوى سفينته، فيها أهله وتنوره وحاجته، لا يباح له الترخص.
الشرط الرابع الاستقلال بالرأي: فمن كان تابعاً غيره ممن هو مالك أمره كالزوجة مع زوجها، والجندي مع أميره، والخادم مع سيده والطالب مع أستاذه، ولا يعرف كل واحد منهم مقصده، لا يقصر، لأن شرط قصد موضع معين لم يتحقق. وهذا الشرط عند الشافعية مقيد بما قبل قطع مسافة القصر، فإن قطعوا مسافة القصر، قصروا، وإن لم يقصر المتبوعون لتيقن طول سفرهم.
شروط جمع التقديم
الشرط الأول: - نية الجمع: أي أن ينوي جمع التقديم، في أول الصلاة الأولى، وتجوز في أثنائها في الأظهر، ولو مع السلام منها.
الشرط الثاني:- الترتيب أي البُداءة بالأولى صاحبة الوقت : وهو أن يقدم الأولى، ثم يصلي الثانية، لأن الوقت للأولى، وإنما يفعل الثانية تبعاً للأولى، فلابد من تقديم المتبوع، فلو صلاهما مبتدئاً بالأولى، فبان فسادها بفوات شرط أو ركن، فسدت الثانية أيضاً، لانتفاء شرطها من البداءة بالأولى، ولكن تنعقد الثانية نافلة على الصحيح.
الشرط الثالث:- الموالاة أي التتابع بألا يفصل بينهما فاصل طويل، لأن الجمع يجعلهما كصلاة واحدة، فوجب الولاء كركعات الصلاة أي فلا يفرق بينهما، كما لا يجوز أن يفرق بين الركعات في صلاة واحدة، فإن فصل بينهما بفصل طويل ولو بعذر كسهو وإغماء، بطل الجمع، ووجب تأخير الصلاة الثانية إلى وقتها ، لفوات شرط الجمع، وإن فصل بينهما بفصل يسير، لم يضر، كالفصل بينهما بالأذان والإقامة والطهارة، لما في الصحيحين عن أسامة: "أن النبي ﷺ لما جمع بنمرة، أقام للصلاة بينهما".
ويعرف طول الفصل بالعرف، لأنه لا ضابط له في الشرع ولا في اللغة.
وللمتيمم الجمع بين الصلاتين على الصحيح، كالمتوضئ، فلا يضر تخلل طلب خفيف للماء، لأن ذلك من مصلحة الصلاة، فأشبه الإقامة، بل أولى، لأنه شرط دونها.
الشرط الرابع:- دوام السفر إلى الإحرام بالصلاة الثانية، حتى ولو انقطع سفره بعد ذلك أثناءها. أما إذا انقطع سفره قبل الشروع في الثانية، فلا يصح الجمع، لزوال السبب.
الشرط الخامس:- بقاء وقت الصلاة الأولى يقيناً إلى عقد الصلاة الثانية.
الشرط السادس:- ظن صحة الصلاة الأولى : فلو جمع العصر مع الجمعة في مكان تعددت فيه لغير حاجة، وشك في السبق والمعية، لا يصح جمع العصر معها جمع تقديم.
شروط جمع التأخير:
الشرط الأول:- نية التأخير قبل خروج وقت الصلاة الأولى، ولو بقدر ركعة : أي بزمن لو ابتدئت فيه، كانت أداء. وإلا فيعصي، وتكون قضاء. ودليل اشتراط النية : أنه قد يؤخر للجمع، وقد يؤخر لغيره، فلابد من نية يتميز بها التأخير المشروع عن غيره.
الشرط الثاني:- دوام السفر إلى تمام الصلاة الثانية، فإن لم يدم إلى ذلك بأن أقام ولو في أثنائها، صارت الأولى (وهي الظهر أو المغرب) قضاء، لأنها تابعة للثانية في الأداء للعذر، وقد زال قبل تمامها.
أما الترتيب: فليس بواجب، لأن وقت الثانية وقت الأولى، فجاز البداية بما شاء منهما. وأما التتابع: فلا يجب أيضاً، لأن الأولى مع الثانية كصلاة فائتة مع صلاة حاضرة، فجاز التفريق بينهما. وإنما الترتيب والتتابع سنة، وليس بشرط.
سنة الصلاة في السفر: فإذا جمع الظهر والعصر قدم سنة الظهر التي قبلها، وله تأخيرها، سواء أجمع تقديماً أم تأخيراً، وله توسيطها إن جمع تأخيراً، سواء قدم الظهر أم العصر. وإذا جمع المغرب والعشاء، أخر سنتهما، وله توسيط سنة المغرب إن جمع تأخيراً، وقدم المغرب، وتوسيط سنة العشاء إن جمع تأخيراً وقدم العشاء. وما سوى ذلك ممنوع.
حالات الجمع عند الحنابلة: يجوز جمع التقديم والتأخير في ثمان حالات:
إحداها:- السفر الطويل المبيح للقصر.
الثانية:- المرض: الذي يؤدي إلى مشقة وضعف بترك الجمع.
الثالثة:- الإرضاع: يجوز الجمع لمرضع، لمشقة تطهير النجاسة لكل صلاة، فهي كالمريض.
الرابعة:- العجز عن الطهارة بالماء أو التيمم لكل صلاة : يجوز الجمع لعاجز عنهما، دفعاً للمشقة، لأنه كالمسافر والمريض.
الخامسة:- العجز عن معرفة الوقت: يجوز الجمع لعاجز عن ذلك كالأعمى.
السادسة:- الاستحاضة ونحوها: يجوز الجمع لمستحاضة ونحوها كصاحب سلس بول أو مذي أو رعاف دائم ونحوه ومن به سلس البول ونحوه في معناه.
السابعة والثامنة: العذر أو الشغل: يجوز الجمع لمن له شغل، أو عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة، كخوف على نفسه أو حرمته أو ماله، أو تضرر في معيشة يحتاجها بترك الجمع ونحوه. وهذا منفذ يلجأ إليه العمال وأصحاب المزارع للسقي في وقت النوبة (أو الدور).
والجمع للمطر: جائز بين المغرب والعشاء.
-ولا يجوز الجمع بين الظهر والعصر، فلم يرد إلا في المغرب والعشاء. والجمع للمطر يكون في وقت الأولى، لفعل السلف، ولأن تأخير الأولى إلى وقت الثانية يفضي إلى لزوم المشقة والخروج في الظلمة، أو طول الانتظار في المسجد إلى دخول وقت العشاء. وإن اختار الناس تأخير الجمع جاز. والمطر المبيح للجمع: هو ما يبل الثياب، وتلحق المشقة بالخروج فيه.
والثلج والبرد كالمطر في ذلك. أما الطل والمطر الخفيف الذي لا يبل الثياب فلا يبيح.
وأما الوحل بمجرده فهو عذر، لأن المشقة تلحق بذلك في النعال والثياب، كما تلحق بالمطر، لأن الوحل يلوث الثياب والنعال، ويعرض الإنسان للزلق فيتأذى به بنفسه وثيابه، وذلك أعظم من البلل.
وأما الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة : فيبيح الجمع، لأن ذلك عذر في الجمعة والجماعة، روى نافع عن ابن عمر، قال: "كان رسول الله ﷺ ينادي مناديه في الليلة المطيرة أو الليلة الباردة ذات الريح: صلوا في رحالكم" رواه ابن ماجه.
وهذه الأعذار كلها تبيح الجمع تقديماً وتأخيراً، حتى لمن يصلي في بيته، أو يصلي في مسجد ولو كان طريقه مسقوفاً، ولمقيم في المسجد ونحوه كمن بينه وبين المسجد خطوات يسيرة، ولو لم ينله إلا مشقة يسيرة.
وفعل الأرفق من جمع التقديم أو التأخير لمن يباح له أفضل بكل حال، فإن استويا فالتأخير أفضل لأنه أحوط، وفيه خروج من الخلاف، وعمل بالأحاديث كلها.
لكن الجمع في أثناء الحج يكون تقديماً بين الظهر والعصر في عرفة، وتأخيراً في المزدلفة بين المغرب والعشاء، لفعله ﷺ، لاشتغاله وقت العصر بعرفة بالدعاء، ووقت المغرب ليلة مزدلفة بالسير إليها.