الغريبة
عضو مشاغب
حكم استعمال أداة النداء (يا) في دعاء الله جل وعلا
220241
السؤال
هل صحيح القول بأن من الخطأ ان نستعمل كلمة "يا" في الدعاء ( يا الله , يا رب , يا أرحم الراحمين) ؛ لأن الكبير ينادي على الصغير باستعمال ال-"يا" ولا يصح العكس ؟ :
( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" (13),
كما أن الخالق الكبير العزيز العلي العظيم الجبار فاطر السماوات والأرض ,
يخاطب عباده ورسله باستعمال كلمة "يا" على سبيل المثال:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ..." ، " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا... " .
ورد في القرآن الكريم فقط مرتين كلمة " يا رب" وكلتاهما ليستا لدعاء:
1) " وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا " الفرقان /30 ،
وكلمة "يا" هنا دالة على الشكوى فالرسول ﷺ يشكو بحزن شديد
وألم كبير لله , بأننا هجرنا كتاب الله وأصبحنا نقرأ الكتاب كما الببغاء! للأسف تفرقنا إلى 73 فرقة .
2) "وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ " الزخرف/88 ،
وأيضا ها هنا نرى أن الرسول يشكو لله عدم تصديق الناس له وكفرهم فهم لا يؤمنون.
إذا كيف نتوجه بدعائنا للرحمن ؟
أ) نستعمل أدعية قرآنية كما دعا الأنبياء والصالحون عليهم السلام .
ب) نستعمل أدعية مما دعا الرسول ﷺ .
ت) إذا ما أردنا أن نتوجه للرحمن ونثني عليه بصفاته الحسنى , نقول: اللهم " إنك" .
الجواب
الحمد لله.
أولا:
جاء القرآن بتعليم العباد آداب مناجاة ودعاء رب الأرباب جل جلاله , لتقع هذه المناجاة على أحسن حال ، وليكون ذلك وسيلة لاستجابة الدعاء , ومن هذه الآداب إسقاط حرف النداء "يا" في الدعاء بما يشعر بقرب المنادَى سبحانه , بخلاف دعاء الله سبحانه لعباده فإنه غالبا ما يأتي بحرف النداء "يا" المشيرة إلى أنه سبحانه موصوف بالتعالي والاستغناء عن خلقه ,
جاء في " الموافقات " للشاطبي (4 / 202) : " فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ نِدَاءَ اللَّهِ لِلْعِبَادِ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِـ"يَا" الْمُشِيرَةِ إِلَى بُعْدِ الْمُنَادِي لِأَنَّ صَاحِبَ النِّدَاءِ مُنَزَّهٌ عَنْ مُدَانَاةِ الْعِبَادِ ، مَوْصُوفٌ بِالتَّعَالِي عَنْهُمْ وَالِاسْتِغْنَاءِ ،
فَإِذَا قَرَّرَ نِدَاءَ الْعِبَادِ لِلرَّبِّ أَتَى بِأُمُورٍ تَسْتَدْعِي قُرْبَ الْإِجَابَةِ : مِنْهَا: إِسْقَاطُ حَرْفِ النِّدَاءِ الْمُشِيرِ إِلَى قُرْبِ الْمُنَادَى ، وَأَنَّهُ حَاضِرٌ مَعَ الْمُنَادِيِ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْهُ ؛ فَدَلَّ عَلَى اسْتِشْعَارِ الرَّاغِبِ هَذَا الْمَعْنَى ؛ إِذْ لَمْ يَأْتِ فِي الْغَالِبِ إِلَّا "رَبَّنَا" "رَبَّنَا" كَقَوْلِهِ: ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا ) [الْبَقَرَةِ: 286] , ( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ) [البقرة: 127] .
( رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي) [آل عمران: 35] .
(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) [الْبَقَرَةِ: 260] " انتهى.
[/COLOR]
وكون إسقاط حرف النداء من آداب الدعاء لا يعني أن استعمال حرف النداء خطأ , أو مكروه ؛ بل هي مقدرة في هذه السياقات السابقة ، والمقدر كالمذكور ، وإنما قصارى ما في الأمر : التنبيه إلى نكتة بلاغية ، في أمر أغلبي ، كما سبق من كلام الشاطبي ، وليس قاعدة مطردة في كل حال .
ثانيا :
جاءت السنن والآثار ، متظاهرة ، باستعمال حرف النداء في الدعاء , فمن ذلك ما أخرجه البخاري (3350) من دعاء إبراهيم ربه يوم القيامة " يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : ( إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِينَ ) ،
وفي حديث الشفاعة الذي أخرجه البخاري (4712) :
(ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي ،
فَأَقُولُ : أُمَّتِي يَا رَبِّ ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَ بِّ)،
وفي " صحيح مسلم " (920) أن رسول الله ﷺ قال :
( اللهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ ) ,
وأخرج مسلم (2380) أيضا من دعاء موسى عليه السلام لربه أن يدله على الخضر فقال :
( يَا رَبِّ فَدُلَّنِي عَلَيْهِ ) ،
وفيه أيضا (2445) من دعاء عائشة : " يَا رَبِّ سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي " ،
وفي سنن أبي داود (1495): عَنْ أَنَسٍ : " أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي ، ثُمَّ دَعَا:
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ ، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ) ,
وفي " سنن الترمذي " (3524) عن أنس بن مالك، قال: " كان النبي ﷺ إذا كربه أمر قال:
( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ) ،
وفي " مسند " أحمد (17143) وغيره عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
( أَلِظُّوا بِـ" يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" ) .
ثالثا:
ما جاء في السؤال من أن الكبير ينادي على الصغير باستخدام أداة التنبيه (يا) ولا يصح العكس:
كلام غير دقيق ، بدليل ما سبق من الأحاديث ,
وزيادة على ذلك فقد جاء صدور الخطاب من البشر لرب العالمين باستخدام أداة النداء (يا)
فمن ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه (4487) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ ) ،
وفيه أيضا (4625) : ( أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ ، أَلاَ وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي ) .
وجاء صدور الخطاب من الصغير للكبير من البشر باستخدام أداة النداء (يا)
فمن ذلك نداء يوسف لأبيه يعقوب ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )يوسف/ 4 ,
ومن ذلك خطاب إخوة يوسف لأخيهم يوسف وهو عزيز مصر ,
( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين ) يوسف/ 88 .
رابعا:
بخصوص الدعاء بلفظ " اللهم " و " يا الله " فليس هناك فرق من حيث المعنى ؛ لأن الراجح من كلام اللغويين أن " اللهم " هي " يا الله " ولكن حُذِف من (يا الله ) أداة النداء وعُوِّض عنها ميم مشددة مفتوحة في آخر الكلمة ,
قال القرطبي في تفسيره (4 / 53) " قَوْلُهُ تَعَالَى:
" قُلِ اللَّهُمَّ" : اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي تَرْكِيبِ لَفْظَةِ" اللَّهُمَّ "
بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ أَنَّهَا مَضْمُومَةُ الْهَاءِ مُشَدَّدَةُ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ ، وَأَنَّهَا مُنَادَى،
وَقَدْ جَاءَتْ مُخَفَّفَةَ الْمِيمِ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى:
كَدَعْوَةٍ مِنْ أبي رباح ... يسمعها - اللهم - الْكبَارُ
قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجَمِيعُ الْبَصْرِيِّينَ:
إِنَّ أَصْلَ اللَّهُمَّ : يَا أَللَّهُ ، فَلَمَّا اسْتُعْمِلَتِ الْكَلِمَةُ دُونَ حَرْفِ النِّدَاءِ الَّذِي هُوَ" يَا" ،
جَعَلُوا بَدَلَهُ هَذِهِ الْمِيمَ الْمُشَدَّدَةَ ، فَجَاءُوا بِحَرْفَيْنِ ، وَهُمَا الْمِيمَانِ ،
عِوَضًا مِنْ حَرْفَيْنِ وَهُمَا الْيَاءُ وَالْأَلِفُ ، وَالضَّمَّةُ فِي الْهَاءِ هِيَ ضَمَّةُ الِاسْمِ الْمُنَادَى الْمُفْرَدِ .
وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَالْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّهُمَّ : يَا أَللَّهُ أُمَّنَا بِخَيْرٍ ، فَحَذَفَ وَخَلَطَ الْكَلِمَتَيْنِ، وَإِنَّ الضَّمَّةَ الَّتِي فِي الْهَاءِ هِيَ الضَّمَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِي أُمّنَا ، لَمَّا حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ انْتَقَلَتِ الْحَرَكَةُ.
قَالَ النَّحَّاسُ : هَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ الْخَطَأِ الْعَظِيمِ ، وَالْقَوْلُ فِي هَذَا مَا قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ " انتهى .
والأكثر في الدعاء ، مع لفظ الجلالة خاصة : استعمال ( اللهم ) ، من غير أن يذكر معها "الياء" ،
قال ابن مالك في ألفيته:
والأكثر اللهم بالتعويض ... وشذ يا اللهم في قريض
جاء في " توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك " (2 / 1068):
" وجه شذوذه أن فيه جمعا بين العِوَض والمعوَّض ،
ومنه قوله : إني إذا ما حَدَثٌ ألمـَّا ... أقول يا اللهم يا اللهمّا " .انتهى .
والحاصل :
أنه لا حرج في الدعاء بلفظ النداء ، مع أسماء الله الحسنى كلها ،
وأما لفظ الجلالة "الله" ، فله خصوصية نحوية ، كما سبق بيانه .
والله أعلم .
المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب