الغريبة
عضو مشاغب
الحذر من فتنة الدنيا
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد:
فإن الله أكثر من التحذير من فتنة الدنيا لعظم خطرها وشدة تأثيرها وبريق زخرفها وقوة سحرها على النفوس الضعيفة قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(. وقد ضرب الله مثلا للدنيا على هوانها وزوالها وذهاب زينتها فقال: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً). والكافر أشد إعجابا بزينة الدنيا لأنه ركن إليها واتخذها دارا له أما المؤمن فيأخذ منها حاجته ولا يغتر بها لأنه يوقن أنها دار ممر وليست دار مقر وإذا أعجب بها ذكر الآخرة فهانت على نفسه ولم تفتنه.
والله قد خلق زينة الدنيا فتنة واختبارا للناس قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا). فمن أخذها بحقها وأنفقها في حقها وقام بدينه نجا في الآخرة ومن أخذها من غير حقها وصرفها في غير حقها وترك دينه لأجلها هلك في الآخرة والناس في فتنتها ما بين مقل ومستكثر والموفق من حماه الله من فتنتها. وقد بين النبي ﷺ أن الله مبتلينا بزينة الدنيا ليختبر إيماننا فقال: (إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ). رواه مسلم.
والدنيا حقيرة عند الله كما ورد في الترمذي: (لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ). والدنيا مذمومة عند الله إلا ما كان في طاعة الله أو أعان عليها من ذكر الله وطلب العلم الشرعي كما ورد في الترمذي: (أَلا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلعونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللَّه تَعَالَى ومَا وَالَاه، وَعالمًا وَمُتَعلِّمًا). قال سعيد بن المسيب: (أن الدنيا نذلة وهي إلى كل نذل أميل وأنذل منها من أخذها بغير حقها وطلبها بغير وجهها ووضعها في غير سبيلها(.
والمقصود من الآيات والأخبار في ذم الدنيا اتقاء فتنتها وعدم الغلو في محبتها والركون إليها وعقد الولاء عليها أما طلب الرزق الحلال وتعاطي أسبابها للقيام بالمصالح الدينية والدنيوية فهذا مأذون فيه شرعا ولا يدخل في الذم كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ). وقال رسول الله ﷺ: (نِعْمَ المالُ الصَّالحُ للمَرءِ الصَّالحِ). رواه أحمد. وقال سعيد المسيب: (لا خير فيمن لا يحب هذا المال يصل به رحمه ويؤدي به أمانته ويستغني به عن خلق ربه.( وقال ابن تيمية: (فحرص الرجل على المال والشرف يوجب فساد الدين فأما مجرد الحب الذي في القلب إذا كان الإنسان يفعل ما أمره الله به ويترك ما نهى الله عنه ويخاف مقام ربه وينهى النفس عن الهوى فإن الله لا يعاقبه على مثل هذا إذا لم يكن معه عمل وجمع المال إذا قام بالواجبات فيه ولم يكتسبه من الحرام لا يعاقب عليه لكن إخراج فضول المال والاقتصار على الكفاية أفضل وأسلم وأفرغ للقلب وأجمع للهم وأنفع في الدنيا والآخرة).
ومما يزهد المؤمن في الدنيا ويبين حقارتها أن الله بسطها للكفار وفتح لهم زهرة الدنيا وعجل لهم طيباتهم في الدنيا كما قال تعالى: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ). وقال تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ). وحال المؤمن في الدنيا كالسجين لأنه متقيد بأوامر الشرع ونواهيه لا يتصرف وفق هواه ودنياه مهما بلغت تعد سجنا بالنسبة لما ينتظره من النعيم في الآخرة أما الكافر فحر يتصرف كيف يشاء ويفعل ما يريد لا يتقيد بدين ودنياه مهما قلت تعد جنة بالنسبة لما ينتظره من العذاب في الآخرة وقد قال النبي ﷺ: (الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ). رواه مسلم.
ومما يبين حقارتها سرعة انقضائها وفناء لذاتها وأنها زائلة عما قريب ولا يخلد فيها المؤمن كما قال تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). وقال رسول الله ﷺ: (واللَّهِ ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلَّا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إصْبَعَهُ هذِه، وأَشارَ يَحْيَى بالسَّبَّابَةِ، في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ تَرْجِعُ؟). رواه مسلم. فنعيم الدنيا قليل منقطع ونعيم الآخرة كثير دائم.
وفتنة الدنيا تكون في أمور:
الأول: جمع الدنيا من الطريق الحرام من الربا والغش والسرقة أو عدم المبالاة في اكتساب المال أهو من الحلال أو الحرام فيخوض في الشبهات ويستسهل مظالم الناس قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ). وفي صحيح البخاري قوله ﷺ: (يَأْتي علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ ما أخَذَ منه، أمِنَ الحَلالِ أمْ مِنَ الحَرامِ). وأكالون الحرام ينتظرهم مشهد خطير وسؤال عظيم يوم القيامة.
الثاني: المبالغة في الاشتغال بجمعها وفتنة القلب بزخرفها فتصده عن ذكر الله وتلهيه عن القيام بالفرائض وتوقعه في المحرمات قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
الثالث: الغلو في محبة الدنيا واللهث وراء سرابها حتى يغلب عليه الطمع والجشع والبخل فيمنع حقوق الناس ويتخلق بالكذب والتدليس على المسلمين قال تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). وقال إبراهيم بن أدهم: (قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع وكثرة الحرص والطمع تورث كثرة الغم والجزع).
الرابع: أن تستحوذ الدنيا على جل همه وسعيه حتى تعمي بصيرته فيغضب لأجل الدنيا ويرضى لأجلها ويعطي لأجلها ويمنع لأجلها قال تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ).
ومن أعظم أخطار التعلق بفتنة الدنيا والجري الشديد وراء زخرفها والتفات القلب لزينتها وقوع التنافس المذموم بين المسلمين أفرادا ودولا مما يورث التنازع والتحاسد والعداوة والبغضاء والتفرق من أجل الصراع على الرئاسات والأموال والمصالح الشخصية حال انفتاح زهرة الدنيا وكثرة الغنى كما حذر النبي ﷺ من ذلك بقوله: (فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ). متفق عليه. وفي صحيح مسلم قال رسول الله ﷺ: (إذا فُتِحَتْ علَيْكُم فارِسُ والرُّومُ، أيُّ قَوْمٍ أنتُمْ؟ قالَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كما أمَرَنا اللَّهُ، قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أوْ غيرَ ذلكَ، تَتَنافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدابَرُونَ، ثُمَّ تَتَباغَضُونَ، أوْ نَحْوَ ذلكَ، ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ في مَساكِينِ المُهاجِرِينَ، فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُمْ علَى رِقابِ بَعْضٍ). أما حال الفقر وضيق الحال فالفتنة والتنازع أقل لعدم وجود ما يدعو للتنافس والتدابر ولذلك تكون النفوس غالبا قريبة ومتعاونة ومتصالحة ومتسامحة.
والمؤمن الحق يجعل همه واهتمامه منصب على عمل الآخرة فيحرص على اغتنام وقته في الصالحات والمسابقة في الخيرات ولا ينسى نصيبه من الدنيا فيأخذ منها ما يبلغه ويصلح شأنه ولا يجعل الدنيا هي الأصل في قلبه ويجعل الآخرة في الهامش قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا). وقال سفيان الثوري: (خذ من الدنيا لبدنك وخذ من الآخرة لقبك).
والناس في موقفهم من الدنيا على أقسام:
الأول: من يغلب على قلبه حب الدنيا فيؤثرها على الآخرة ويفرط في دينه وينصرف همه وقلبه لعمارتها ولو على حساب خراب آخرته وهذا هو حال أهل الدنيا المفتونين بها الذين قال فيهم النبي ﷺ: (تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ). رواه البخاري.
الثاني: من يسعى لكسب الرزق لكن يجعل الدنيا في يده ولا يجعلها في قلبه ويقوم بحق الله وحقوق عبادة ويكون زاهدا فيها باذلا لفضلها قال تعالى: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ). قال مطر الوراق: (كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة). وهذا هو حال السلف الصالح أهل الصدق مع الله.
الثالث: من يعرض عن الدنيا بالكلية ويقعد عن طلب الرزق ولا يغني نفسه عن السؤال أو التعرض لإحسان الناس وعطاياهم فيذل نفسه وهذا مخالف لهدي النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم وهو مسلك الصوفية من أهل البطالة قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ). وفي الصحيحين قول النبي ﷺ: (لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً علَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ له مِن أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ). فليس في ديننا تواكل وبطالة وقد ذم السلف هذا المسلك قال عمر بن الخطاب: (إني لأرى الرجل فيعجبني, فأسأل: أله مهنة؟ فإن قيل: لا، سقط من عيني). وقيل لأحمد بن حنبل: ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي. فقال أحمد: (هذا رجل جهل العلم. أما سمع قول النبي ﷺ: (وَجُعِلَ رِزْقي تحت ظِلِّ رُمْحِي). وقال حين ذكر الطير: (تَغْدُو خِمَاصًا وتَرُوحُ بِطانًا)).
الرابع: من يكون عنده حرص شديد على جمع الدنيا محبا للاستكثار منها مولع بزخرفها والتوسع في متعها صارفا أكثر وقته في تحصيلها مائلا إلى الإمساك مع قيامه بالفرائض في الجملة فهذا وإن كان على خير إلا أنه يخشى أن يكون قلبه مبتلى بمرض خفي يفضي به إلى الكسل عن الطاعة والقعود عن مجالس الذكر والتساهل في التجارة المشبوهة والوقوع في المظالم وقد ورد في الصحيحين عظم الحساب يوم القيامة لصاحب المال الكثير قال رسول الله ﷺ: (إنَّ الأكْثَرِينَ هُمُ الأقَلُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، إلَّا مَن قالَ بالمَالِ هَكَذَا وهَكَذَا وهَكَذَا عَنْ يَمِينِهِ, وعَنْ شِمَالِهِ, وَمِنْ خَلْفِهِ, وقَلِيلٌ ما هُمْ). والحرص الشديد يوقع صاحبه في المهالك ولذلك حذر النبي ﷺ من الحرص على الدنيا والتشوف للاستكثار منها بقوله: (لَوْ كانَ لاِبْنِ آدَمَ وادِيانِ مِن مالٍ لابْتَغَى وادِيًا ثالِثًا، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ، ويَتُوبُ اللَّهُ علَى مَن تابَ). متفق عليه. وقد ذم الله اليهود على هذه الخصلة الذميمة فقال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ). وقال الحسن البصري: (من أحب الدنيا وسرته ذهب خوف الآخرة من قلبه وما من عبد يزداد علما ويزداد على الدنيا حرصا إلا ازداد إلى الله عز و جل بغضا وازداد من الله بعدا). وعلامة هذا القسم من الناس تطلعه الشديد للدنيا ومنافسته لأهلها وعدم قناعته بما قدر الله له من الرزق وقلقه الدائم وحزنه الشديد على خسارة ماله وعدم غنى نفسه مع تملكه لأصناف المال واستغنائه عن الخلق.
والترف داء خطير يفسد الفرد والمجتمع يوقع في الكسل عن الطاعات ورد الحق والإعراض عن اتباع السنة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعلو في الأرض والتشبه بالكفار وقسوة القلب وعدم الاتعاظ بالمواعظ والاعتبار بالآيات وشيوع الفواحش والتلاعب بدين الله قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ). وقال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ). وقال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(. وعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: (أَتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَهو يَقْرَأُ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)، قالَ: يقولُ ابنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، قالَ: وَهلْ لَكَ، يا ابْنَ آدَمَ مِن مَالِكَ إلَّا ما أَكَلْتَ فأفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فأبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ؟). رواه مسلم.
والدنيا مشتملة على فتن كثيرة من أخطرها:
(1) فتنة المال: قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ). وقال رسول الله ﷺ: (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وإن فتنة أمتي الْمالُ). رواه أحمد. وإذا فتن المؤمن بالمال رق دينه وذهب ورعه وزهد في عمل الآخرة وفرط في الفضائل.
(2) فتنة النساء: قال تعالى: (وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا). قال ابن عباس رضي الله عنه: (أي: وخلق الله الإنسان ضعيفا أي: لا يصبر عن النساء). وفي الصحيحين قال النبي ﷺ: (ما تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ علَى الرِّجالِ مِنَ النِّساءِ). ولذلك بدأ بذكر النساء لأن الفتنة بهن أشد قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ). وقال ﷺ: (إيَّاكُمْ والدُّخُولَ علَى النِّساءِ فقالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ: يا رَسولَ اللَّهِ، أفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قالَ: الحَمْوُ المَوْتُ). متفق عليه. وقال ﷺ: (أَلَا لَا يَخْلُونَّ رَجُلٌ بِامْرَأةٍ إِلَّا كَانَ ثَالثَهُمَا الشَّيطانُ). رواه الترمذي. وكانت فتنة بني إسرائيل في النساء كما ورد في الصحيح: (فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ). وقد كان السلف يشتد خوفهم من فتنة النساء كان سعيد بن المسيب رحمه الله بلغ الثمانين وذهبت رغبته في النساء وفقد بصر إحدى عينيه ومع ذلك يقول: (ما شيء أخوف عندي علي من النساء). وقال أيضا: (ما أيس من الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء). وإذا استجاب المؤمن لفتنة النساء ذهب دينه وخف عقله ومال إلى أهل الباطل ووقع في الفواحش.
(3) فتنة حب الرئاسة: قال تعالى: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُو). وقال رسول الله ﷺ: (مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ). رواه الترمذي. وقال بشر بن الحارث: (ما اتقى الله من أحب الشهرة). وقال الفضيل بن عياض: (ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس وكره أن يذكر أحد بخير). وقال يحي بن معاذ: (لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة). وكان السلف الصالح يسمون حب الرئاسة بالشهوة الخفية لأنها تخفى على الناس وقد تخفى على صاحبها قيل لأبي داود السجستاني: (ما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة). وقد كان السلف يفرون من مجالس الشهرة لئلا يفتنوا في نياتهم ومقاصدهم. وإذا فتن المؤمن بحب الرئاسة والشهرة فقد الإخلاص وبطر الحق وتصنع الفضائل ولم يكن عمله لأجل إعلاء كلمة الله وترك لزوم طريق التقوى ومال إلى الدنيا.
(4) فتنة المعازف: قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا). قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات). وفي صحيح البخاري قال رسول الله ﷺ: (لَيَكونَنَّ مِن أُمَّتي أقْوامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحَرِيرَ، والخَمْرَ والمَعازِفَ). وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع). وقال الفضيل بن عياض: (الغناء رقية الزنا). وقال ابن القيم: (فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفـة ومجانبة شهوات النفس وأسباب الغي وينهى عن اتباع خطوات الشيطان والغناء يأمر بضد ذلك كله ويحسنه). وإذا فتن المؤمن بسماع المعازف صده الشيطان عن ذكر الله وانشغلت نفسه بالباطل وكره الحق وقلت غيرته وزينت له الشهوات.
(5) فتنة السُّكْر: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وقال رسول الله ﷺ: (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ، ومَن شَرِبَ الخَمْرَ في الدُّنْيا فَماتَ وهو يُدْمِنُها لَمْ يَتُبْ، لَمْ يَشْرَبْها في الآخِرَةِ). رواه مسلم. والخمر أم الخبائث من كبائر الذنوب ومن مات ولم يتب من شرب الخمر سقاه الله طينة الخبال قال رسول الله ﷺ: (إنَّ علَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدًا لِمَن يَشْرَبُ المُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِن طِينَةِ الخَبَالِ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وَما طِينَةُ الخَبَالِ؟ قالَ: عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ). رواه مسلم. قال الحسن البصري: (لو كان العقل يشترى لتغالى الناس في ثمنه فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده). وإذا فتن المؤمن بشرب الخمر ذهبت مروءته وفسد عقله وتلف بدنه وضيع ماله وصحب أهل المجون واجترأ على ارتكاب الكبائر وكسل عن الطاعات وضاع وقته في سفاسف الأمور. ومن فر من هذه الفتن وسلم قلبه منها وعمل بالاحتياط وراقب إيمانه وشغل نفسه بالصالحات والمباحات فهو على خير عظيم ويرجى له حسن الخاتمة.
وقد كان النبي ﷺ يحذَر من فتنة الدنيا لعلمه بخطرها فقد كان يستعيذ منها كما في البخاري: (كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ، كما تُعَلَّمُ الكِتَابَةُ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ البُخْلِ، وأَعُوذُ بكَ مِنَ الجُبْنِ، وأَعُوذُ بكَ مِن أنْ نُرَدَّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ، وأَعُوذُ بكَ مِن فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وعَذَابِ القَبْرِ). وكان ﷺ يفر من أسبابها ويتقي فتنتها ولا يشتغل بجمع حطامها ولا يصيب منها إلا قدر قوت أهله ويتصدق بفضلها ويحذِّر أمته خطرها فقد روى البخاري عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: (صَلَّيْتُ ورَاءَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالمَدِينَةِ العَصْرَ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إلى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِن سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عليهم، فَرَأَى أنَّهُمْ عَجِبُوا مِن سُرْعَتِهِ، فَقالَ: ذَكَرْتُ شيئًا مِن تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أنْ يَحْبِسَنِي، فأمَرْتُ بقِسْمَتِهِ). وكان ﷺ زاهدا في نعيمها صابرا على لأوائها محتسبا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (نامَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ علَى حصيرٍ فقامَ وقد أثَّرَ في جنبِهِ فقلنا يا رسولَ اللَّهِ لوِ اتَّخَذنا لَكَ وطاءً فقالَ ما لي وما للدُّنيا ، ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكبٍ استَظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها). رواه الترمذي. وقد أدبه ربه عز وجل وحذره من الافتتان بزخرفها بقوله: (وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
وقد تنوعت عبارات السلف في ذم الدنيا والتحذير من خطرها لدقيق فهمهم وزكاء نفوسهم وقوة بصيرتهم وكبير تعلقهم بالآخرة قال جندب البجلي رضي الله عنه: (حب الدنيا رأس كل خطيئة). وهذا محمول على الحب المحرم الذي يصد عن ذكر الله ويفضي إلى المعاصي ويفتن قلب المؤمن وعمله أما الحب الذي لا يطغي ولا يلهي فلا يؤاخذ عليه المؤمن وليكن على حذر منه. وقال ابن عباس رضي الله عنه: (إن الله تعالى جعل الدنيا ثلاثة أجزاء جزء للمؤمن وجزء للمنافق وجزء للكافر فالمؤمن يتزود والمنافق يتزين والكافر يتمتع). وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها). وقال الحسن البصري: (أهينوا الدنيا فو الله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن أهانها). وقال الفضيل بن عياض: (لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان ينبغي لنا أن نختار خزفا يبقى على ذهب يفنى). وقال بشر بن الحارث: (ﻣﻦ ﺳﺄﻝ الله اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻓﺈﻧﻤﺎ ﻳﺴﺄﻟﻪ ﻃﻮﻝ اﻟﻮﻗﻮﻑ). وقال رجل لأبي حازم: (أشكو إليك حب الدنيا وليست لي بدار فقال: انظر ما آتاكه الله عز وجل منها فلا تأخذه إلا من حلة ولا تضعه إلى في حقه).
خالد بن سعود البليهد
صيد الفوائد
فإن الله أكثر من التحذير من فتنة الدنيا لعظم خطرها وشدة تأثيرها وبريق زخرفها وقوة سحرها على النفوس الضعيفة قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(. وقد ضرب الله مثلا للدنيا على هوانها وزوالها وذهاب زينتها فقال: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً). والكافر أشد إعجابا بزينة الدنيا لأنه ركن إليها واتخذها دارا له أما المؤمن فيأخذ منها حاجته ولا يغتر بها لأنه يوقن أنها دار ممر وليست دار مقر وإذا أعجب بها ذكر الآخرة فهانت على نفسه ولم تفتنه.
والله قد خلق زينة الدنيا فتنة واختبارا للناس قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا). فمن أخذها بحقها وأنفقها في حقها وقام بدينه نجا في الآخرة ومن أخذها من غير حقها وصرفها في غير حقها وترك دينه لأجلها هلك في الآخرة والناس في فتنتها ما بين مقل ومستكثر والموفق من حماه الله من فتنتها. وقد بين النبي ﷺ أن الله مبتلينا بزينة الدنيا ليختبر إيماننا فقال: (إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ). رواه مسلم.
والدنيا حقيرة عند الله كما ورد في الترمذي: (لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ). والدنيا مذمومة عند الله إلا ما كان في طاعة الله أو أعان عليها من ذكر الله وطلب العلم الشرعي كما ورد في الترمذي: (أَلا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلعونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللَّه تَعَالَى ومَا وَالَاه، وَعالمًا وَمُتَعلِّمًا). قال سعيد بن المسيب: (أن الدنيا نذلة وهي إلى كل نذل أميل وأنذل منها من أخذها بغير حقها وطلبها بغير وجهها ووضعها في غير سبيلها(.
والمقصود من الآيات والأخبار في ذم الدنيا اتقاء فتنتها وعدم الغلو في محبتها والركون إليها وعقد الولاء عليها أما طلب الرزق الحلال وتعاطي أسبابها للقيام بالمصالح الدينية والدنيوية فهذا مأذون فيه شرعا ولا يدخل في الذم كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ). وقال رسول الله ﷺ: (نِعْمَ المالُ الصَّالحُ للمَرءِ الصَّالحِ). رواه أحمد. وقال سعيد المسيب: (لا خير فيمن لا يحب هذا المال يصل به رحمه ويؤدي به أمانته ويستغني به عن خلق ربه.( وقال ابن تيمية: (فحرص الرجل على المال والشرف يوجب فساد الدين فأما مجرد الحب الذي في القلب إذا كان الإنسان يفعل ما أمره الله به ويترك ما نهى الله عنه ويخاف مقام ربه وينهى النفس عن الهوى فإن الله لا يعاقبه على مثل هذا إذا لم يكن معه عمل وجمع المال إذا قام بالواجبات فيه ولم يكتسبه من الحرام لا يعاقب عليه لكن إخراج فضول المال والاقتصار على الكفاية أفضل وأسلم وأفرغ للقلب وأجمع للهم وأنفع في الدنيا والآخرة).
ومما يزهد المؤمن في الدنيا ويبين حقارتها أن الله بسطها للكفار وفتح لهم زهرة الدنيا وعجل لهم طيباتهم في الدنيا كما قال تعالى: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ). وقال تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ). وحال المؤمن في الدنيا كالسجين لأنه متقيد بأوامر الشرع ونواهيه لا يتصرف وفق هواه ودنياه مهما بلغت تعد سجنا بالنسبة لما ينتظره من النعيم في الآخرة أما الكافر فحر يتصرف كيف يشاء ويفعل ما يريد لا يتقيد بدين ودنياه مهما قلت تعد جنة بالنسبة لما ينتظره من العذاب في الآخرة وقد قال النبي ﷺ: (الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ). رواه مسلم.
ومما يبين حقارتها سرعة انقضائها وفناء لذاتها وأنها زائلة عما قريب ولا يخلد فيها المؤمن كما قال تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). وقال رسول الله ﷺ: (واللَّهِ ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلَّا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إصْبَعَهُ هذِه، وأَشارَ يَحْيَى بالسَّبَّابَةِ، في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ تَرْجِعُ؟). رواه مسلم. فنعيم الدنيا قليل منقطع ونعيم الآخرة كثير دائم.
وفتنة الدنيا تكون في أمور:
الأول: جمع الدنيا من الطريق الحرام من الربا والغش والسرقة أو عدم المبالاة في اكتساب المال أهو من الحلال أو الحرام فيخوض في الشبهات ويستسهل مظالم الناس قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ). وفي صحيح البخاري قوله ﷺ: (يَأْتي علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ ما أخَذَ منه، أمِنَ الحَلالِ أمْ مِنَ الحَرامِ). وأكالون الحرام ينتظرهم مشهد خطير وسؤال عظيم يوم القيامة.
الثاني: المبالغة في الاشتغال بجمعها وفتنة القلب بزخرفها فتصده عن ذكر الله وتلهيه عن القيام بالفرائض وتوقعه في المحرمات قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
الثالث: الغلو في محبة الدنيا واللهث وراء سرابها حتى يغلب عليه الطمع والجشع والبخل فيمنع حقوق الناس ويتخلق بالكذب والتدليس على المسلمين قال تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). وقال إبراهيم بن أدهم: (قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع وكثرة الحرص والطمع تورث كثرة الغم والجزع).
الرابع: أن تستحوذ الدنيا على جل همه وسعيه حتى تعمي بصيرته فيغضب لأجل الدنيا ويرضى لأجلها ويعطي لأجلها ويمنع لأجلها قال تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ).
ومن أعظم أخطار التعلق بفتنة الدنيا والجري الشديد وراء زخرفها والتفات القلب لزينتها وقوع التنافس المذموم بين المسلمين أفرادا ودولا مما يورث التنازع والتحاسد والعداوة والبغضاء والتفرق من أجل الصراع على الرئاسات والأموال والمصالح الشخصية حال انفتاح زهرة الدنيا وكثرة الغنى كما حذر النبي ﷺ من ذلك بقوله: (فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ). متفق عليه. وفي صحيح مسلم قال رسول الله ﷺ: (إذا فُتِحَتْ علَيْكُم فارِسُ والرُّومُ، أيُّ قَوْمٍ أنتُمْ؟ قالَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كما أمَرَنا اللَّهُ، قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أوْ غيرَ ذلكَ، تَتَنافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدابَرُونَ، ثُمَّ تَتَباغَضُونَ، أوْ نَحْوَ ذلكَ، ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ في مَساكِينِ المُهاجِرِينَ، فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُمْ علَى رِقابِ بَعْضٍ). أما حال الفقر وضيق الحال فالفتنة والتنازع أقل لعدم وجود ما يدعو للتنافس والتدابر ولذلك تكون النفوس غالبا قريبة ومتعاونة ومتصالحة ومتسامحة.
والمؤمن الحق يجعل همه واهتمامه منصب على عمل الآخرة فيحرص على اغتنام وقته في الصالحات والمسابقة في الخيرات ولا ينسى نصيبه من الدنيا فيأخذ منها ما يبلغه ويصلح شأنه ولا يجعل الدنيا هي الأصل في قلبه ويجعل الآخرة في الهامش قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا). وقال سفيان الثوري: (خذ من الدنيا لبدنك وخذ من الآخرة لقبك).
والناس في موقفهم من الدنيا على أقسام:
الأول: من يغلب على قلبه حب الدنيا فيؤثرها على الآخرة ويفرط في دينه وينصرف همه وقلبه لعمارتها ولو على حساب خراب آخرته وهذا هو حال أهل الدنيا المفتونين بها الذين قال فيهم النبي ﷺ: (تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ). رواه البخاري.
الثاني: من يسعى لكسب الرزق لكن يجعل الدنيا في يده ولا يجعلها في قلبه ويقوم بحق الله وحقوق عبادة ويكون زاهدا فيها باذلا لفضلها قال تعالى: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ). قال مطر الوراق: (كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة). وهذا هو حال السلف الصالح أهل الصدق مع الله.
الثالث: من يعرض عن الدنيا بالكلية ويقعد عن طلب الرزق ولا يغني نفسه عن السؤال أو التعرض لإحسان الناس وعطاياهم فيذل نفسه وهذا مخالف لهدي النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم وهو مسلك الصوفية من أهل البطالة قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ). وفي الصحيحين قول النبي ﷺ: (لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً علَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ له مِن أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ). فليس في ديننا تواكل وبطالة وقد ذم السلف هذا المسلك قال عمر بن الخطاب: (إني لأرى الرجل فيعجبني, فأسأل: أله مهنة؟ فإن قيل: لا، سقط من عيني). وقيل لأحمد بن حنبل: ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي. فقال أحمد: (هذا رجل جهل العلم. أما سمع قول النبي ﷺ: (وَجُعِلَ رِزْقي تحت ظِلِّ رُمْحِي). وقال حين ذكر الطير: (تَغْدُو خِمَاصًا وتَرُوحُ بِطانًا)).
الرابع: من يكون عنده حرص شديد على جمع الدنيا محبا للاستكثار منها مولع بزخرفها والتوسع في متعها صارفا أكثر وقته في تحصيلها مائلا إلى الإمساك مع قيامه بالفرائض في الجملة فهذا وإن كان على خير إلا أنه يخشى أن يكون قلبه مبتلى بمرض خفي يفضي به إلى الكسل عن الطاعة والقعود عن مجالس الذكر والتساهل في التجارة المشبوهة والوقوع في المظالم وقد ورد في الصحيحين عظم الحساب يوم القيامة لصاحب المال الكثير قال رسول الله ﷺ: (إنَّ الأكْثَرِينَ هُمُ الأقَلُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، إلَّا مَن قالَ بالمَالِ هَكَذَا وهَكَذَا وهَكَذَا عَنْ يَمِينِهِ, وعَنْ شِمَالِهِ, وَمِنْ خَلْفِهِ, وقَلِيلٌ ما هُمْ). والحرص الشديد يوقع صاحبه في المهالك ولذلك حذر النبي ﷺ من الحرص على الدنيا والتشوف للاستكثار منها بقوله: (لَوْ كانَ لاِبْنِ آدَمَ وادِيانِ مِن مالٍ لابْتَغَى وادِيًا ثالِثًا، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ، ويَتُوبُ اللَّهُ علَى مَن تابَ). متفق عليه. وقد ذم الله اليهود على هذه الخصلة الذميمة فقال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ). وقال الحسن البصري: (من أحب الدنيا وسرته ذهب خوف الآخرة من قلبه وما من عبد يزداد علما ويزداد على الدنيا حرصا إلا ازداد إلى الله عز و جل بغضا وازداد من الله بعدا). وعلامة هذا القسم من الناس تطلعه الشديد للدنيا ومنافسته لأهلها وعدم قناعته بما قدر الله له من الرزق وقلقه الدائم وحزنه الشديد على خسارة ماله وعدم غنى نفسه مع تملكه لأصناف المال واستغنائه عن الخلق.
والترف داء خطير يفسد الفرد والمجتمع يوقع في الكسل عن الطاعات ورد الحق والإعراض عن اتباع السنة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعلو في الأرض والتشبه بالكفار وقسوة القلب وعدم الاتعاظ بالمواعظ والاعتبار بالآيات وشيوع الفواحش والتلاعب بدين الله قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ). وقال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ). وقال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(. وعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: (أَتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَهو يَقْرَأُ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)، قالَ: يقولُ ابنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، قالَ: وَهلْ لَكَ، يا ابْنَ آدَمَ مِن مَالِكَ إلَّا ما أَكَلْتَ فأفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فأبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ؟). رواه مسلم.
والدنيا مشتملة على فتن كثيرة من أخطرها:
(1) فتنة المال: قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ). وقال رسول الله ﷺ: (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وإن فتنة أمتي الْمالُ). رواه أحمد. وإذا فتن المؤمن بالمال رق دينه وذهب ورعه وزهد في عمل الآخرة وفرط في الفضائل.
(2) فتنة النساء: قال تعالى: (وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا). قال ابن عباس رضي الله عنه: (أي: وخلق الله الإنسان ضعيفا أي: لا يصبر عن النساء). وفي الصحيحين قال النبي ﷺ: (ما تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ علَى الرِّجالِ مِنَ النِّساءِ). ولذلك بدأ بذكر النساء لأن الفتنة بهن أشد قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ). وقال ﷺ: (إيَّاكُمْ والدُّخُولَ علَى النِّساءِ فقالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ: يا رَسولَ اللَّهِ، أفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قالَ: الحَمْوُ المَوْتُ). متفق عليه. وقال ﷺ: (أَلَا لَا يَخْلُونَّ رَجُلٌ بِامْرَأةٍ إِلَّا كَانَ ثَالثَهُمَا الشَّيطانُ). رواه الترمذي. وكانت فتنة بني إسرائيل في النساء كما ورد في الصحيح: (فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ). وقد كان السلف يشتد خوفهم من فتنة النساء كان سعيد بن المسيب رحمه الله بلغ الثمانين وذهبت رغبته في النساء وفقد بصر إحدى عينيه ومع ذلك يقول: (ما شيء أخوف عندي علي من النساء). وقال أيضا: (ما أيس من الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء). وإذا استجاب المؤمن لفتنة النساء ذهب دينه وخف عقله ومال إلى أهل الباطل ووقع في الفواحش.
(3) فتنة حب الرئاسة: قال تعالى: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُو). وقال رسول الله ﷺ: (مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ). رواه الترمذي. وقال بشر بن الحارث: (ما اتقى الله من أحب الشهرة). وقال الفضيل بن عياض: (ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس وكره أن يذكر أحد بخير). وقال يحي بن معاذ: (لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة). وكان السلف الصالح يسمون حب الرئاسة بالشهوة الخفية لأنها تخفى على الناس وقد تخفى على صاحبها قيل لأبي داود السجستاني: (ما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة). وقد كان السلف يفرون من مجالس الشهرة لئلا يفتنوا في نياتهم ومقاصدهم. وإذا فتن المؤمن بحب الرئاسة والشهرة فقد الإخلاص وبطر الحق وتصنع الفضائل ولم يكن عمله لأجل إعلاء كلمة الله وترك لزوم طريق التقوى ومال إلى الدنيا.
(4) فتنة المعازف: قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا). قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات). وفي صحيح البخاري قال رسول الله ﷺ: (لَيَكونَنَّ مِن أُمَّتي أقْوامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحَرِيرَ، والخَمْرَ والمَعازِفَ). وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع). وقال الفضيل بن عياض: (الغناء رقية الزنا). وقال ابن القيم: (فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفـة ومجانبة شهوات النفس وأسباب الغي وينهى عن اتباع خطوات الشيطان والغناء يأمر بضد ذلك كله ويحسنه). وإذا فتن المؤمن بسماع المعازف صده الشيطان عن ذكر الله وانشغلت نفسه بالباطل وكره الحق وقلت غيرته وزينت له الشهوات.
(5) فتنة السُّكْر: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وقال رسول الله ﷺ: (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ، ومَن شَرِبَ الخَمْرَ في الدُّنْيا فَماتَ وهو يُدْمِنُها لَمْ يَتُبْ، لَمْ يَشْرَبْها في الآخِرَةِ). رواه مسلم. والخمر أم الخبائث من كبائر الذنوب ومن مات ولم يتب من شرب الخمر سقاه الله طينة الخبال قال رسول الله ﷺ: (إنَّ علَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدًا لِمَن يَشْرَبُ المُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِن طِينَةِ الخَبَالِ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وَما طِينَةُ الخَبَالِ؟ قالَ: عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ). رواه مسلم. قال الحسن البصري: (لو كان العقل يشترى لتغالى الناس في ثمنه فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده). وإذا فتن المؤمن بشرب الخمر ذهبت مروءته وفسد عقله وتلف بدنه وضيع ماله وصحب أهل المجون واجترأ على ارتكاب الكبائر وكسل عن الطاعات وضاع وقته في سفاسف الأمور. ومن فر من هذه الفتن وسلم قلبه منها وعمل بالاحتياط وراقب إيمانه وشغل نفسه بالصالحات والمباحات فهو على خير عظيم ويرجى له حسن الخاتمة.
وقد كان النبي ﷺ يحذَر من فتنة الدنيا لعلمه بخطرها فقد كان يستعيذ منها كما في البخاري: (كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ، كما تُعَلَّمُ الكِتَابَةُ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ البُخْلِ، وأَعُوذُ بكَ مِنَ الجُبْنِ، وأَعُوذُ بكَ مِن أنْ نُرَدَّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ، وأَعُوذُ بكَ مِن فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وعَذَابِ القَبْرِ). وكان ﷺ يفر من أسبابها ويتقي فتنتها ولا يشتغل بجمع حطامها ولا يصيب منها إلا قدر قوت أهله ويتصدق بفضلها ويحذِّر أمته خطرها فقد روى البخاري عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: (صَلَّيْتُ ورَاءَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالمَدِينَةِ العَصْرَ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إلى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِن سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عليهم، فَرَأَى أنَّهُمْ عَجِبُوا مِن سُرْعَتِهِ، فَقالَ: ذَكَرْتُ شيئًا مِن تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أنْ يَحْبِسَنِي، فأمَرْتُ بقِسْمَتِهِ). وكان ﷺ زاهدا في نعيمها صابرا على لأوائها محتسبا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (نامَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ علَى حصيرٍ فقامَ وقد أثَّرَ في جنبِهِ فقلنا يا رسولَ اللَّهِ لوِ اتَّخَذنا لَكَ وطاءً فقالَ ما لي وما للدُّنيا ، ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكبٍ استَظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها). رواه الترمذي. وقد أدبه ربه عز وجل وحذره من الافتتان بزخرفها بقوله: (وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
وقد تنوعت عبارات السلف في ذم الدنيا والتحذير من خطرها لدقيق فهمهم وزكاء نفوسهم وقوة بصيرتهم وكبير تعلقهم بالآخرة قال جندب البجلي رضي الله عنه: (حب الدنيا رأس كل خطيئة). وهذا محمول على الحب المحرم الذي يصد عن ذكر الله ويفضي إلى المعاصي ويفتن قلب المؤمن وعمله أما الحب الذي لا يطغي ولا يلهي فلا يؤاخذ عليه المؤمن وليكن على حذر منه. وقال ابن عباس رضي الله عنه: (إن الله تعالى جعل الدنيا ثلاثة أجزاء جزء للمؤمن وجزء للمنافق وجزء للكافر فالمؤمن يتزود والمنافق يتزين والكافر يتمتع). وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها). وقال الحسن البصري: (أهينوا الدنيا فو الله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن أهانها). وقال الفضيل بن عياض: (لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان ينبغي لنا أن نختار خزفا يبقى على ذهب يفنى). وقال بشر بن الحارث: (ﻣﻦ ﺳﺄﻝ الله اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻓﺈﻧﻤﺎ ﻳﺴﺄﻟﻪ ﻃﻮﻝ اﻟﻮﻗﻮﻑ). وقال رجل لأبي حازم: (أشكو إليك حب الدنيا وليست لي بدار فقال: انظر ما آتاكه الله عز وجل منها فلا تأخذه إلا من حلة ولا تضعه إلى في حقه).
خالد بن سعود البليهد
صيد الفوائد