الداعية أبوعبدالله
عضو مميز
غالبًا ما يصيبُنا من البلاءِ ما يُثقِلُ كاهِلنا ويكسِرُ ظهورنا، نسأل الله أن لما هذا؟ دون إدراكٍ منّا عن سببِ ما نحنُ فيه، ناسين أم متناسين أنّ ما يزرعُه المرء في حياتِه يحصده عاجلاً أو آجلاً، سواءً خيرًا كان أو شرًا. وهذا ما جاء في قول الشيخ محمود المصري: المؤمن يعلم أن الدنيا مزرعة للآخرة، وأن ما يزرعه هنا فسوف يحصده هناك.. عندما يصل المؤمن إلى تلك الحقيقة، ويوقن أنه موقوف بين يدي الله جلّ وعلا في يوم مقداره خمسون ألف سنة، فإن الدنيا لو سجدت بين يديه لركضها برجليه طامعاً في ساعة واحدة يناجي فيها ربّه لعل الله يكتب له بها النجاة من تلك النار التي أُوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، وألف عامٍ حتى احمرّت، وألف عامٍ حتى اسودّت، فهي الآن سوداء قاتمة.. فيعلم المؤمن أن كل نعيم دون الجنة سراب، وكل عذاب دون النار عافية.
فالإنسان مخلوقٌ ذو زوايا متشعّبة ومن بين هذه الزوايا الشر والخير، فإمّا أن يكون قادِرًا على قمعِ بذرة الشرّ فيه بزرع الخير أين ما حلّ، وإمّا أن يستوطن الشر قلبه فيُصبِح كقنبلة ناسفة أينما حلّت دمّرت ما حولها، لكنّه في كلا الحالتين سيجني إمّا ثوابًا يتلذّذه في الحياة الدّنيا والآخرة، وإمّا عقابًا يلقاه يوم مماتِه أو في حياتِه قبل الممات. فليس منّا من أصاب غيره بأذى أو تكلّم عنه بسوء سواءً بصدقٍ أو افتراء ولم يجزى بمِثلِ ما أصاب، فمن يغتب غيره يحمل أوزاره وينقص من ذنوبه ويضيف لنفسه، ومن يقذفُ محصناتِ غيره يأته يومٌ ويُقذفُ في عرضه. ويقول ُسبحانهُ تعالى في سورة النّجم: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾ (38)، لأنّ ما تفعله يصيبُك أنتَ وحدكَ ولا يصيبُ غيرك من أخواتِك أو بناتِك أو أحد أفرادِ عائلتِك بل المصيبة ستحطُ على صاحبِ الذّنبِ ولا أحد سواه.
وهذا هو حال الآباءِ والأبناء فإن زُرت يومًا دار العجزة ورأيتَ هول المكانِ وبؤس الآباء والأمهات فسيصيبكَ ألم باذخ وتتحسّر على أولئك الّذين رموا بأهلِهِم دون أدنى رحمةٍ أو شفقة، وتتعجّب لأمرِهم، لكن عندما ترى ما يفعلُه الآباء لأولادِهم من سوءِ معاملتهم وتعذيبِهم ولا مبالاتٍ بِهم وكأنّهم لا يملكون لهم في قلوبِهم من الحبّ والعطف شيئًا وكأن ليسوا قطعة من روحِهم وفلذاتُ أكبادِهم، ستدرِكُ حينَها أنّ الحياة عقوقٌ متبادَل.
أسعد غيرك ولو بشيءٍ بسيـط وسترى كيف سترافِقُك تلكَ السعادة طِوال اليوم، كلّ ما تذكرتها مُلأت روحك حيوية وسعادةٍ غامرة. ولا تترُك للأذى مكانًا في حياتِك
فمن يسئ اليوم لوالِديه فسيأتِيه يومٌ يُفعلُ بِه مثلما فعل بهِما دون ذرة رحمة ولا شفقة، وكيف يُرحمُ شخصٌ لَم يَرحَم من كبّراهُ وسهِرا على راحتِه حتّى وصل إلى ما هو عليه، أنكر النّعمة فلم يُجزى من الله سبحانه وتعالى إلاّ بجنس ما فعل. وتِلك الّتي ائتمنتها صديقتُها على سرّها وظنّتها مخزنُ أسرارِها وشخصًا موثوقًا تبُثُّها أحزانَها، فخانتِ الثقة ولم تترُك من السرّ ما يُقال عنهُ سرًا وجعلتها علكة بأفواه كلّ من هبّ ودب، فظنّت بذلِك أنّ لن يأتيها يومٌ ويصيبُها من الله ما هو أشدّ أضعافًا مضاعفة. عن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "إذَا أذْنَبَتْ إحْدَاكُنَّ ذَنْبًا فْلَتْسَتْغْفِر الله وتَتُبْ ولا تُحَدِّثْ بِه أحدًا".
ولكم هو سهلٌ إيذاء غيرِنا وطعنِهم، فقد يظنّهُ البعض حديثًا يمرّ ولن يُصيبَهُم منه شيء لكنّهم لا يعلمون أنّهم بذلِك كتبوا لِنفسهم عقابًا بمثلِ ما فعلوا أو أشد. جاء في الحديث الشريف: "من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله" رواه الترمذي. وقليلون هم من يستدركون هول ما فعلوه فتأنِّبُهم ضمائرُهم ويستغفرون ربّهم لحظتها وتضيق صدورهم لما سبّبوه لغيرهم من أذى في لحظة ضعفت فيها النّفسُ للشيطان ووساوِسه، فيحاولون بذلِك جهدَ أيمانِهم إصلاح وترميم أخطائهم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُون".
أليس من الجميل أن نزرع بذرة خيرٍ أينما حللنا ونترُك في قلوبِ من نعرفُ ولا نعرِف أثرًا جميلاً يتذكرونا به؟ أليس في العطاء سعادة تخالِجُ قلب المُعطي حينَ يرى ابتسامة في ثغرِ غيره وأن يكون هو سببُ تِلك الابتسامة؟ قال الله تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ (المزمل: 20). جرّب ذلك بنفسِك أسعد غيرك ولو بشيءٍ بسيـط وسترى كيف سترافِقُك تلكَ السعادة طِوال اليوم، كلّ ما تذكرتها مُلأت روحك حيوية وسعادةٍ غامرة. ولا تترُك للأذى مكانًا في حياتِك حتّى إن حدث وآذيتَ غيرك فلم يتأخر الوقت على الاعتذار بكلمة طيبة بصدقٍ وحبّ ستجدُ قبولاً برحابة صدر منه، فقط أخلِص النيّة لله تعالى ولا تجعل في عملِك رياءً لأنّ ما تعملهُ بنيّةٍ صالحة يترسَّخُ ويكونُ أكثر قبوُلاً؛ قال الله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ (فاطر: 10)، لتُلَملِم ما بعثرته وتداوي جراح من أحزنته، لأنّ سعادتَنا تكمُن في عدمِ إلحاق الضرر بغيرِنا والإحسان إليهم، لأنّ الإحسان للغير راحة للنّفس والضمير.
إن أحسنت فمن فضل الله عليّ وإن أسأت فمن نفسي والشيطان
ولاحول ولاقوة إلا بالله
إلى اللقاء مع الجزء الثاني إن شاء الله