العبد الفقير إلى الله
عضو ذهبي
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
*********************************************
المسألةُ فيها خِلافٌ!
لا إنكار في مسائل الخلاف
2/2
علَوي بن عبد القادر السَّقَّاف
المشرف العام على مؤسَّسة الدرر السنية
3 ذو القعدة 1442هـ
حمدا لله رب العالمين،
القائل في محكم التنزيل:
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]،
وصلاة وسلاما على المبعوث رحمة للعالمين،
القائل:
((إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله)) ([1]).
وبعد؛ فإن الأصل الذي قامت عليه الشريعة الإسلامية الغراء، وأمر الله المسلمين أن يعتصموا به هو الدليل من الكتاب والسنة، والواجب عند كل اختلاف وتنازع هو الرجوع إلى حكم الله تعالى فيه؛
يقول الله عز وجل:
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]،
ويقول الرسول ﷺ: ((إني أوتيت القرآن ومثله معه)) ([2]).
وقد شاع عند كثير من الناس عندما تنكر عليهم مسألة دليلها ظاهر وواضح وضوح الشمس في رائعة النهار، أن يقولوا: لا إنكار في مسائل الخلاف!
فهل حقا لا إنكار في مسائل الخلاف؟!
الجواب: نعم، لا إنكار في مسائل الخلاف، وأولئك الذين ينكرون على الناس كل مسألة وقع فيها خلاف بين العلماء ويريدون إلزام الناس برأيهم: مخطئون، لكن أي خلاف ذاك الذي لا إنكار فيه؟ هل هو كل خلاف؟!
وقبل الإجابة عن هذا السؤال أذكر باختصار بما سبق بيانه في الجزء الأول من المقال، من أن الخلاف نوعان: خلاف سائغ معتبر، وخلاف غير سائغ وغير معتبر ولا حظ له من النظر. وكلاهما على درجات.
فما كان من المسائل التي لا دليل عليها من كتاب أو سنة، أو كانت أدلتها متكافئة لدى الطرفين وتجاذبها دليلان شرعيان صحيحان يتعذر الجزم بصواب أحدهما؛ فهذه من مسائل الخلاف المعتبر، وتسميتها بالمسائل الاجتهادية أولى من تسميتها بالمسائل الخلافية؛ للتمييز بينهما؛ وهذا هو الذي لا إنكار فيه.
قال الشيخ ابن عثيمين: (لو أننا قلنا: المسائل الخلافية لا ينكر فيها على الإطلاق، لذهب الدين كله حين تتبع الرخص؛ لأنك لا تكاد تجد مسألة إلا وفيها خلاف) ([3]).
وقد بين ابن تيمية الفرق بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد؛ ومتى يجب الإنكار فيها ومتى لا يجوز، بقوله: (إذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا قديما وجب إنكاره وفاقا،... وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع، وجب إنكاره أيضا بحسب درجات الإنكار... أما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ؛ لم ينكر على من عمل بها مجتهدا أو مقلدا) ([4]).
وقال عن مسائل الاجتهاد أيضا وليس الخلاف: (مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء، لم ينكر عليه ولم يهجر) ([5]).
وقال العز بن عبد السلام: (الضابط في هذا أن مأخذ المخالف إن كان في غاية الضعف والبعد من الصواب، فلا نظر إليه ولا التفات عليه، إذا كان ما اعتمد عليه لا يصح نصه دليلا شرعا) ([6]).
وقال الزركشي: (لم يزل الخلاف بين السلف في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصا أو إجماعا قطعيا أو قياسا جليا) ([7]).
فكل هذه الأقوال -وغيرها كثير جدا- تنص على أن المختلف فيه إن كان فيه نص أو قياس جلي فإنه ينكر على فاعله، بخلاف مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها ولا إجماع ولا قياس، وهذا الذي جعل ابن تيمية يقول: (وقولهم: مسائل الخلاف لا إنكار فيها، ليس بصحيح) ([8]).
أما ورود هذه العبارة: (لا إنكار في مسائل الخلاف!) في كلام بعض العلماء فمرادهم المسائل التي الخلاف فيها خلاف سائغ ومعتبر، على ما سبق بيانه، وقد يكونون أوضحوا مرادهم في مواضع أخرى من كتبهم. ومن أشهر من نقل عنه ذلك، ويدندن حوله البعض: النووي، بقوله: (العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه) ([9])، لكن كلامه هذا أعقبه بعد بضعة أسطر وضح مراده بالمختلف فيه -بما يوافق الأئمة الأعلام- بقوله: (ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا.) ([10])؛
فهذا القيد من كلامه رحمه الله يبين مقصوده بقوله: (أما المختلف فيه فلا إنكار فيه)، وهو عدم الإنكار فيما لم يخالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا، وهذه هي مسائل الاجتهاد، أما مسائل الخلاف التي فيها نص من الكتاب أو السنة، فهذه ينكر على صاحبها بدرجات الإنكار، كما سيأتي.
كما أن المسائل المختلف فيها خلافا غير سائغ تتفاوت من حيث نكارتها وشذوذها، ومن حيث قربها وبعدها عن الدليل، وبحسب هذا التفاوت تكون درجات الإنكار؛ وكما أن الإنكار يكون يكون بالزجر والشدة وقد يكون أحيانا باليد ممن تكون له ولاية أو سلطة شرعية، فكذلك يكون بالنصيحة، والموعظة، والتوجيه، والإرشاد، والتذكير والتنبيه، والكلمة الطيبة بالحكمة والأسلوب الحسن، والقول بالرفق واللين؛ كل ذلك من الإنكار، قال الإمام أحمد بن حنبل: (الناس يحتاجون إلى مداراة ورفق، والأمر بالمعروف بلا غلظة) ([SUP][11][/SUP])، وقال ابن مفلح: (الإنكار يكون وعظا، وأمرا ونهيا، وتعزيرا وتأديبا) ([SUP][12][/SUP])، فظن الناس أن الإنكار لا يكون إلا بالشدة والعنف والزجر وربما بالضرب، جعلهم يتشبثون بمقولة: (لا إنكار في مسائل الخلاف!).
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم ينكرون على من خالف النص من الكتاب أو السنة كائنا من كان.
فمن ذلك ما رواه عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب بينا هو يخطب الناس يوم الجمعة، دخل رجل من أصحاب رسول الله ﷺ، فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ فقال: إني شغلت اليوم فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النداء، فلم أزد على أن توضأت. قال عمر: والوضوء أيضا؟! وقد علمت أن رسول الله ﷺ كان يأمر بالغسل) ([SUP][13][/SUP]). فأنكر عليه تأخيره في حضوره لصلاة الجمعة، وأنكر عليه اكتفاءه بالوضوء دون الغسل.
ومنه ما رواه عبيد بن عمير قال: (بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: يا عجبا لابن عمرو هذا! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟! لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله ﷺ من إناء واحد، ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات!) ([SUP][14][/SUP]).
ومنه إنكار ابن عمر رضي الله عنهما على ابنه بلال في منعه النساء من الصلاة في المساجد إنكارا شديدا؛ فعن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها»، قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن. قال: فأقبل عليه عبد الله، فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط! وقال: أخبرك عن رسول الله ﷺ، وتقول: والله لنمنعهن؟! ([SUP][15][/SUP]).
والأمثلة كثيرة جدا.
كما أنهم اختلفوا في عدد من المسائل الاجتهادية التي لا دليل عليها، أو تجاذبها نصان عن النبي ﷺ، وفهمه كل واحد منهم فهما مختلفا عن الآخر، ولم ينكر بعضهم على بعض. والأمثلة في ذلك أيضا كثيرة، منها:
عن أنس رضي الله عنه قال: (سافرنا مع رسول الله ﷺ في رمضان، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم.([16]) (
وعن محمد بن أبي بكر الثقفي أنه سأل أنس بن مالك، وهما غاديان من منى إلى عرفة: كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله ﷺ؟ فقال: كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه، ويكبر منا المكبر فلا ينكر عليه ([17]). وهذا مع وجود النبي ﷺ معهم وإقراره للفعلين أيضا.
بل إن النبي ﷺ ما كان ينكر عليهم فيما فيه اجتهاد من المسائل؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (قال النبي ﷺ يوم الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، فأدرك بعضهم العصر في الطريق. فقال بعضهم: لا نصلي العصر حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي ﷺ فلم يعنف واحدا منهم) ([SUP][18][/SUP])، فهذه من مسائل الاجتهاد، والخلاف فيها سائغ؛ فقد يكون مراد النبي ﷺ الإسراع في المشي، وقد يكون يريد ألا يصلوا إلا في بني قريظة ولو أدركهم الوقت.
وقد سبق بيان أن المسائل الخلافية خلافا غير سائغ كثيرة لا يمكن حصرها؛ كتختم الرجال بالذهب، ولبسهم الحرير، وشرب ما أسكر كثيره من النبيذ، وعدم الطمأنينة في الصلاة، وعدم قراءة الفاتحة فيها، وولاية المرأة نفسها في النكاح، وغيرها كثير جدا، فهل يصح أن يقال عن مثل هذه المسائل الخلافية: لا إنكار فيها لأنها من مسائل الخلاف؟!
فعلى المسلم الصادق أن يتقي الله تعالى، وأن ينظر فيما ينجيه يوم العرض على مولاه، وألا يتبع الفتاوى الضعيفة والشاذة، ويترك ما أوجبه الله عليه، وليكن همه إرضاء الله عز وجل لا إرضاء نفسه وهواه، وليتذكر الوقوف أمام الله عز وجل يوم يبعث ليوم عظيم؛
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89].
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يهدينا ويهدي شبابنا وفتياتنا للحق، وأن يردهم إليه ردا جميلا، وأن يرينا وإياهم الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يحبب إلينا وإليهم قبول الحق، ويكره إلينا وإليهم الباطل والفسق والعصيان، إنه سميع قريب مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
[1] أخرجه الترمذي (2664)، وابن ماجه (12).
صححه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/324)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (12).
([2] أخرجه أحمد (17174)، وأصله في السنن عند: أبي داود (4604)، والترمذي (2664)، وابن ماجه (12)
([3]) ((لقاء الباب المفتوح)) (49/192).
([4]) المرجع السابق.
([5]) ((مجموع الفتاوى(207/20) ((.
([6]) ((قواعد الأحكام في مصالح الأنام)) (1/ 253).
([7]) ((المنثور في القواعد الفقهية)) (2/140).
([8]) ((الفتاوى الكبرى)) (6/96).
([9]) ((شرح النووي على مسلم)) (2/ 23).
([10]) المرجع السابق.
([11]) ((الآداب الشرعية)) (1/ 191).
([12]) ((الآداب الشرعية)) (1/ 166).
([13]) أخرجه البخاري (878)، ومسلم (845) واللفظ له.
([14]) أخرجه مسلم (331).
([15]) أخرجه مسلم (442).
([16]) أخرجه البخاري (1947)، ومسلم (1118) واللفظ له.
([17]) أخرجه البخاري (1659) واللفظ له، ومسلم (1285).
([18]) أخرجه البخاري (4119) واللفظ له، ومسلم (1770).
التعديل الأخير: