العبد الفقير إلى الله
عضو ذهبي
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
*********************************************
((والتي ينامون عنها أفضل))
علوي بن عبدالقادر السقاف
المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية
الحمد لله على نعمه الكثيرة، والتي من أعظمها فريضة الصلاة،
التي يصل المسلم فيها قلبه بربه، والحمد لله الذي جعل للفرائض نوافل تكمل ما خدش منها وما نقص، وإن من أعظم هذه النوافل قيام الليل والوتر، وقد خص الله تعالى شهر رمضان بقيام خاص، وهي ما أطلق عليه العلماء اسم صلاة التراويح، والسنة في قيام الليل في رمضان وغير رمضان أن تصلى إحدى عشرة ركعة؛
لما رواه البخاري ومسلم: (أن أبا سلمة بن عبد الرحمن سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله ﷺ في رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربع ركعات، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا)،
ولو زاد فلا حرج؛ لما في الصحيحين أيضا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: ((صلاة الليل مثنى مثنى)).
فالسنة في قيام الليل أن تؤدى بحسن وطول وخشوع وطمأنينة مثنى مثنى، وما يقال من الأحكام في قيام الليل يقال في صلاة التراويح، والسنة أن تؤدى جماعة في المسجد، وتؤدى من أول الليل تيسيرا على الناس مع أن آخره أفضل، ولو اتفقت جماعة مسجد ما على تأديتها آخر الليل كما يحصل في العشر الأواخر؛ وكان ذلك مأذونا به؛ لكان أفضل،
وهذا ما عناه عمر رضي الله عنه بقوله: (والتي ينامون عنها أفضل)، روى البخاري -رحمه الله-
عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد؛ لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه! والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله.
فعمر رضي الله عنه هو الذي جمعهم على أبي بن كعب، وهو الذي جعلهم يؤدونها أول الليل، ولم يخالفه أحد من الصحابة؛ وذلك تيسيرا على الناس، وهو رضي الله عنه القائل: (والتي ينامون عنها أفضل)، فكأن عمر رضي الله عنه ما كان يصلي معهم، بل كان يصليها في جماعة آخر الليل، واختار لنفسه الأفضل.
كما أن لصلاة التراويح جماعة في المسجد فضلا آخر إذا صلاها المأموم مع إمامه حتى ينصرف؛ وهو ما رواه الأربعة من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه مرفوعا: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة)).
ومن نعم الله على أمة محمد ﷺ هذا العام أن أكرمهم بصلاة التراويح جماعة في المسجد، بعدما حرم كثير من المسلمين في أكثر بلاد المسلمين العام الماضي من هذه النعمة بسبب جائحة كورونا، إلا أنه -وبسبب هذه الجائحة- اتخذت كثير من الدول إجراءات تحد من إطالة صلاة التراويح؛ احترازا من انتشار هذا الوباء، ومن ذلك قصرها على نصف ساعة مع صلاة العشاء وراتبتها، مما يعني أن على الإمام -تقيدا بهذه الإجراءات- أن يؤديها فيما لا يزيد عن 20 دقيقة تقريبا.
وهنا يسأل بعض الأئمة:
هل الأفضل أن تصلى التراويح إحدى عشرة ركعة خفيفة جدا؟ أم الأفضل التقليل من عدد الركعات لتصلى بطمأنينة وخشوع؟
وهل تصلى الراتبة في البيت؛ لأنها تصلى فرادى فتؤخر عن التراويح أم لا؟
وهل يصلي الإمام الوتر أم يكتفي بالشفع، ثم كل يكمل في بيته صلاته ويوتر؟
وهل يخفف من صلاة العشاء لضيق الوقت من أجل الإطالة قليلا في التراويح؟
ويسأل بعض المأمومين:
هل الأفضل الصلاة في المسجد مع الإمام صلاة خفيفة جدا حتى ينصرف، أم الأفضل الصلاة في البيت؟
وماذا أفعل لو كان الإمام يصلي خمس أو سبع ركعات مع الوتر؛ هل أوتر معه وأنا أريد أن أكمل صلاتي في البيت، أم أنصرف قبل الوتر؟
ولو كان هناك مسجد تصلى فيه التراويح إحدى عشرة ركعة خفيفة جدا، وآخر تصلى فيه خمس أو سبع ركعات متأنية، فأيهما أولى بالصلاة فيه؟
هذه كلها أسئلة مشروعة تدل على حرص الإمام والمأموم، وقبل الإجابة عنها لا بد من الإشارة إلى أنه كما تقدم؛ فإن صلاة التراويح من النوافل المشروعة، وأيا ما اختار الإمام أو المأموم فاختيارهما يدور حول الأفضلية، ولا تثريب على أحد فيما يختار.
وليعلم الإمام والمأموم أن الطمأنينة في الصلاة ركن من أركان الصلاة، سواء أكانت فرضا أم نفلا؛ لحديث المسيء صلاته،
وهو ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: ((أن رجلا دخل المسجد فصلى، ورسول الله ﷺ في ناحية المسجد، فجاء فسلم عليه، فقال له: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع فصلى ثم سلم، فقال: وعليك، ارجع فصل فإنك لم تصل، قال في الثالثة: فأعلمني، قال: إذا قمت إلى الصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي قائما، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها))، أخرجه البخاري ومسلم؛
فهذا الرجل جعله النبي ﷺ يعيد صلاته النفل ثلاث مرات؛ لأنه لم يكن يطمئن في صلاته، فإذا كان الإمام لا يتمكن من الجمع بين الطمأنينة والصلاة بإحدى عشرة ركعة؛ فلا شك أن الركن مقدم على غيره ولو كان واجبا؛ فكيف بالمستحب؟! وقد يكون من المتعذر أن يصلي الإمام التراويح إحدى عشرة ركعة بطمأنينة وخشوع في خمس عشرة أو في عشرين دقيقة.
وقد سئلت عائشة رضي الله عنها: بكم كان رسول الله ﷺ يوتر؟ فقالت:
(كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة). رواه أحمد، وأبو داود بإسناد صحيح.
ولعل الأولى أن يصلي الإمام بالناس بأربع وثلاث، أي: تسليمتين للتراويح، ثم يوتر بثلاث، ولا ينبغي له أن يسرع في صلاة العشاء من أجل صلاة التراويح؛ فالفرض أولى بالطمأنينة وأوجب، وله بعد ذلك أن يصلي آخر الليل لو رغب في ذلك ووجد نشاطا، ولا يعيد وتره، فلا وتران في ليلة؛ لما ثبت أن النبي ﷺ صلى ركعتين قبل الفجر بعد أن أوتر في القيام؛ فعن عروة، أن عائشة رضي الله عنها، أخبرته:
((أن رسول الله ﷺ كان يصلي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته -تعني بالليل- فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للصلاة)) رواه البخاري ومسلم،
هذا أكمل وأفضل للمأمومين من أن يصلي بهم الشفع دون الوتر؛ لأن من المأمومين من لا يتمكن من أداء الوتر في بيته، ومنهم من يرغب في أن ينصرف مع الإمام رجاء أن يكتب له قيام ليلة، ولو خير المأموم بين مسجدين، فالأولى -والله أعلم- أن يختار من قدم التروي والطمأنينة في الصلاة على من قدم عدد الركعات وصلى إحدى عشرة ركعة خفيفة جدا، أما السنة الراتبة فمحلها بعد الفرض تصلى بعده، ولو تركت لتصلى في البيت بعد التراويح؛ فقد يغفل عنها بعض الناس، ومن أهل العلم من يرى أنها أفضل من ركعتين من صلاة التراويح، لكن إن لم يتمكن المأموم من أدائها منفردا؛ فلتكن نيته أن أول ركعتين من صلاة التراويح هي السنة الراتبة للعشاء، ولو صلاها بعد التراويح فصلاته صحيحة؛ لأن وقتها واسع.
وهل الأفضل للمأموم أن يصلي مع الإمام حتى ينصرف فيكتب له قيام ليلة، أم يصلي معه الشفع، ثم يكمل صلاته في البيت؟
في هذه الحالة -ولهذه الظروف الاستثنائية- لعله من الأفضل للمأموم أن يصلي مع الإمام حتى ينصرف، وإذا سلم الإمام في آخر ركعة من الوتر يشفعها بركعة، ثم يكمل صلاته في البيت ويوتر فيه، والأولى أن يوتر مع الإمام ويصلي بعد ذلك في بيته ما تيسر له من دون وتر، وهذا أبعد لصاحبه من الرياء.
ويسأل بعض المأمومين: هل الأفضل أن يصلي صلاة التروايح خفيفة جدا في المسجد أم يصليها جماعة في بيته مع أهله إحدى عشرة ركعة، ويطيل ركوعها وسجودها؟
سبق بيان أن الأصل في صلاة التراويح أنها تصلى جماعة في المسجد، وأن هذه هي السنة، وهي الأفضل، لكن صلاة التروايح كغيرها من الصلوات لها أركان وواجبات وسنن ومستحبات، فإن كان إمام المسجد يخل فيها بأركانها وواجباتها، ويخالف فيها السنة؛ فليصلها في مسجد آخر، أو في بيته خاصة إذا كان قادرا على أن يصليها آخر الليل والناس نيام، وكان ذلك أخشع لقلبه، وأكثر تدبرا، وتأثيرا فيه، أما إن كان لا يستطيع أن يصلي آخر الليل بهذه الصفة، فلا يحرم نفسه من صلاة المسجد خلف الإمام.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.