مصطفى معاذ عباس
عضو نشيط
من فضلك قم بتحديث الصفحة لمشاهدة المحتوى المخفي
اللقاحات هي الحل، كانت هذه هي الإجابة التي توصل إليها علماء الفيروسات حول العالم، بعد دراسة تركيب وطرق انتشار فيروس "سارس كوف-2" المتسبب في مرض كوفيد-19، والذي لا يزال العالم يرزح تحت تبعاته حتى هذه اللحظة. ونتيجة لذلك، كان لا بد من تطوير اللقاحات بشكل سريع لم يسبق أن حدث من قبل في تاريخ البشرية الحديث، والحرص على تلقيح كل سكان الأرض للوصول لمناعة القطيع، ومن ثم القضاء على الجائحة.
هذه الخطة الطموحة ما زالت تواجه العديد من العقبات التقنية والمادية، وحتى الأخلاقية في ظل استئثار الدول الغنية بالحصة الأكبر من اللقاحات، ولكن إذا أضفنا العامل البشري بوصفه عائقا، سنجد أنفسنا أمام تحدٍّ حقيقي يتمثل في معارضي اللقاحات. في هذه الأزمة العالمية التي نمر بها، فإن تصرفات كل فرد في المجتمع ستنعكس لا محالة على باقي الأفراد بشكل أو بآخر.
الوصول إلى "مناعة القطيع (Herd immunity)" هو الهدف الأسمى الذي تسعى إليه كل دول العالم الآن للقضاء على وباء كوفيد-19 والعودة إلى الحياة الطبيعية، وهناك طريقان للوصول إليها، إما أن يصاب ما نسبته 50-60% من السكان بالمرض ويحملوا الأجسام المضادة، لكن هذا قد يتسبب في كارثة طبية، أو أن يحصل الناس على الأجسام المضادة للفيروس من اللقاحات، هنا يسبق العالم الفيروس ويسدّ في وجهه كل الفرص السانحة لإصابة البشر والتكاثر داخل أجسادهم والاستمرار في التحور والانتشار. لو افترضنا أن اللقاحات تعمل على الحماية من العدوى بنسبة 100%، فإننا بحاجة إلى تلقيح 60% من سكان العالم حتى تعود الحياة إلى طبيعتها وتنتهي الجائحة. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، والوصول لمناعة القطيع في حالة كوفيد-19 هو أمر شديد الصعوبة لعدة أسباب.
أولا، نحن لا نمتلك حتى اليوم لقاحا يعطي مناعة بنسبة 100%؛ ما يعني أننا بحاجة لتلقيح عدد أكبر من السكان لتغطية هذا الفارق. ولتعقيد الأمر أكثر، فإنه كلما زادت قابلية انتشار الفيروس -مثل المتحور دلتا أو أوميكرون من فيروس كورونا- بات من الضروري تلقيح نسبة أكبر من السكان بسرعة.
هذه الخطة تعرقلها عقبات أخرى، خاصة في أفريقيا والدول الأكثر فقرا، حيث اللقاحات شحيحة، والموارد لا تكفي لإنتاج أو استيراد اللقاحات من أجل الجميع. في تقرير لمنظمة الصحة العالمية (WHO) نهاية أكتوبر/تشرين الماضي، فإن 6% فقط من سكان قارة أفريقيا تلقوا جرعة كاملة من اللقاح، بينما كان من المفترض أن تصل النسبة إلى 40% على الأقل بنهاية العام الحالي(1).
6% فقط من سكان قارة أفريقيا تلقوا جرعة كاملة من لقاح كوفيد-19.
حتى اليوم، فإن نسبة المواطنين الذين تلقوا جرعة كاملة من اللقاحات المختلفة المطروحة تصل إلى 46.7% على مستوى العالم(2)، يتركز العدد الأكبر منهم في دول بعينها، مثل الصين والهند والولايات المتحدة وأوروبا، بينما بعض الدول الأفريقية لم تتخطَّ نسبة التلقيح لديها حاجز الـ1%! بالطبع حتى تعمل مناعة القطيع، لا بد أن يمتلك معظم سكان العالم مناعة ضد الفيروس، وليس كل دولة على حدة، إلا إذا قررت الدول غلق حدودها للأبد لمنع دخول الفيروس إليها من جديد من خلال المسافرين القادمين من الدول الأقل حظا، وهذا ما لن يحدث على أي حال.
ليت الأمر ينتهي هنا، ولكننا لا نمتلك بعدُ لقاحات مناسبة للأطفال الصغار، والأطفال الذين يولدون كل يوم بلا مناعة ضد الفيروس، ويعني ذلك أننا نعود من جديد إلى نقطة الصفر حيث يوجد عدد كبير من المواطنين بلا مناعة، ما يوفر بيئة خصبة للفيروس للتكاثر والانتشار رغم كل شيء، ويزيد من نسبة انتقال العدوى من الأطفال إلى البالغين غير الملقحين(3). بالإضافة إلى ذلك، فالمناعة التي نكتسبها من الإصابة أو اللقاح لا تدوم إلى الأبد، لذا كلما طال الوقت، فإن عددا أكبر من البشر سيكونون معرضين للإصابة من جديد. إنه سباق محموم لا ندري من سينجح فيه، نحن أم الفيروس.
تجتاح مظاهرات "معارضو اللقاحات (Anti vaxxers)" المملكة المتحدة وإيطاليا وبلجيكا والعديد من الدول الأوروبية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وأستراليا وحتى الهند، وهؤلاء يرون فرض اللقاحات تقييدا لحريتهم وسلبا لحقوقهم بوصفهم مواطنين. وصل الأمر في ألمانيا إلى التهديد بالقتل، حيث قُبض على مجموعة كانت تخطط لاغتيال "مايكل كيتشمر"، محافظ ساكسونيا، بسبب تأييده للقاحات، بخلاف تلقي العديد من السياسيين والإعلاميين المؤيدين للقاحات صناديق تحتوي تهديدا ضمنيا بالقتل لو استمرت ألمانيا في فرض اللقاحات الإجبارية على الجميع(4).
بدأ الأمر يتخطى دعوات مقاطعة اللقاحات إلى الضغط على من تلقوا اللقاح بالفعل، بنشر وصفات "للتخلص من اللقاح بعد الحصول عليه"، إذ ادّعت إحدى معارضات اللقاح في فيديو على منصة تيك توك (TikTok) أنه يمكن التخلص من أثر اللقاح على الجسم عن طريق غمره في حمام من صودا الخَبز ومادة البوراكس المنظفة، كما أن جماعات معارضة اللقاح تدّعي أن الحجامة طريقة فعالة للتخلص من آثار اللقاح. كل هذا غير صحيح، العملية الفسيولوجية التي تحدث داخل الجسم عندما يُحقَن اللقاح في عضلات الذراع، تتضمن تفاعلات عدة في الجهاز المناعي، ينتج عنها أجسام مضادة، ولا يوجد طريقة علمية أو غير علمية يمكنها أن تلغي حدوث هذه التفاعلات(5).
لا تخلو المنطقة العربية من مظاهر معارضة اللقاح، ولكن بشكل قد يختلف قليلا، فعوضا عن تشكيل مجموعات معارضة للقاحات، يعبّر الأفراد عن قلقهم من تلقي اللقاح وتخوفاتهم من الأعراض الجانبية "النادرة" التي سمعوا أنها أصابت بعض الأشخاص، سواء من التلفاز أو من المحيطين بهم. أخبار كهذه تجد بيئة خصبة للانتشار في المجتمعات التي لا تمتلك وعيا صحيا ملائما، ويُحاك حولها الكثير من الأساطير والأكاذيب، ومن ثم يصبح تصديق أي شيء سهلا جدا، بدءا من نظريات المؤامرة، وحتى الوصفات الطبيعية البديلة للقاح. وكما تشير البيانات، تصل نسبة "التردد تجاه التحصين" في الوطن العربي بين 33%-64% في مصر والعراق وتونس(6).
يُعرف "التردد تجاه التحصين (Vaccine Hesitancy)" بأنه تردد الأفراد في تلقي اللقاح خوفا من الأعراض الجانبية، أو تفضيل الانتظار لمدة أطول حتى تصبح اللقاحات أكثر أمانا أو تُدرَس بشكل أفضل. أحد الأسباب المهمة للخوف من لقاحات كوفيد-19 هي السرعة التي صُنِعت بها، إذ يؤمن الناس أن اللقاحات لا بد أن تُدرَس لعدة سنوات أولا قبل إتاحتها للاستخدام، وهذا ما لم يحدث في حالة كوفيد، إذ استُخدِم أول لقاح ضد الفيروس، وهو لقاح شركة فايزر، في ديسمبر/كانون الأول 2020، بعد 7 أشهر فقط من بدء عملية الاختبار والتصنيع. (للمزيد اقرأ: "
ربما كان العالم محظوظا هذه المرة، فحتى ظهور فيروس كوفيد-19، استغرق أسرع لقاح تم إنتاجه في التاريخ 4 سنوات كاملة منذ الخطوة الأولى لدراسة الفيروس وحتى وصول اللقاح للجماهير، وهو لقاح النكاف الذي أُنتِج في الستينات، لكن في حالة كوفيد-19، تضافرت عدة عوامل أدت إلى هذه السرعة الصاروخية في إنتاج اللقاح الأول؛ العامل الأول هو أن فيروس كورونا من عائلة الفيروسات التاجية (Coronaviruses)، وهي فيروسات معروفة ومنتشرة بشدة حول العالم، وقد دُرِست باستفاضة من قبل، خاصة أن فردين آخرين من العائلة نفسها كادا أن يتسببا في جوائح عالمية عام 2002 و2012، وهما السارس (SARS) والميرس (MERS).
الأمر الآخر، هو الميزانية الضخمة التي خُصِّصت حول العالم من أجل إنتاج اللقاحات، وهو أمر لا يحدث في اﻷوقات العادية، لكن حالة الطوارئ الكبرى التي غلّفت الكوكب عقب انتشار الفيروس الشرس، دفعت أصحاب رؤوس الأموال والحكومات لضخّ السيولة في سبيل إنقاذ البشرية، ساعد هذا على إجراء عدة تجارب سريرية متوازية، وتوفير الكثير من الوقت لإعادة تجربة كل لقاح ورصد فعاليّته وأعراضه الجانبية. ولا ننسى تراكم خبرات عدة سنوات من تطوير طرق تصنيع اللقاحات المختلفة، والتي استُفيد منها خلال تصنيع لقاحات كوفيد-19، حيث لم يضطر العلماء إلى اختراع العجلة من جديد. نجحت هذه المساعي، حيث وصلت نسبة الحماية من الإصابة بعد تلقي جرعتين من لقاح فايزر إلى 95%، بالإضافة إلى لقاح أسترازينيكا الذي يوفر حماية بنسبة 63%(7).
عندما تجد نفسك في صراع بين فكرتين متضادتين، فكرة أن اللقاح ضروري للوقاية من الإصابة، وفكرة أن اللقاح قد يسبب بعض الأعراض الجانبية الخطيرة في بعض الأحيان، يسمى هذا بـ"التنافر المعرفي (Cognitive dissonance)"، حيث تتصارع داخلك فكرتان متنافرتان، ومن أجل إسكات القلق الناجم عن هذا الصراع، سوف تلجأ إلى تغيير إحدى الفكرتين للتوافق مع الفكرة الأخرى، كأن تبرر لذاتك بأنه يمكنك الاكتفاء بالإجراءات الاحترازية بدلا من تلقي اللقاح، وبهذا تُرضي ضميرك القَلِق(8). بالطبع إذا أضفنا المعلومة التي تقول إن الفيروس يستغل أجساد الأشخاص غير الملقحين ليتكاثر بشكل أسرع وينتج متحورات أكثر قد تتسبب في كارثة جديدة، فقد تصاب بتنافر معرفي جديد. في هذه الحالة، إما أن ترضخ وتتلقى اللقاح، وإما أن تجد لنفسك مبررا جديدا مقنعا يجعلك لا تتلقاه.
على الجانب الآخر، قد تعتقد أنه من الأفضل ألا تتخذ أي خطوة على الإطلاق، بدلا من أن تتخذ قرارا قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، كأن تصاب بأحد الأعراض الجانبية النادرة لأحد اللقاحات. يسمى هذا بـ"تحيز الإغفال (Omission bias)"، حيث تعتقد أن الامتناع عن تلقي اللقاح أكثر أمانا من اتخاذ خطوة تلقي اللقاح ثم مواجهة الأعراض الجانبية لاحقا، رغم علمك بالأعراض الجانبية الخطيرة الناتجة عن الإصابة بالفيروس ذاته، ولكن يبدو أن انتظار أن تأتي الإصابة من حيث لا تدري يعطي شعورا أكثر بالأمان من اتخاذ خطوة للأمام نحو الحماية.
قد تعتقد لسبب ما أن اللقاحات قاتلة أو غير فعالة، وفي هذه الحالة، ستلتفت دوما إلى المعلومات التي تؤكد اعتقادك، وتتجاهل كل ما يعارضه، فيما يسمى "بالاستدلال بالتوافر (Availability heuristic)"، أي أنك تستدل على معتقداتك بالمعلومات الأكثر توافرا أمامك، وحيث إن مواقع التواصل والأخبار تركز غالبا على الأعراض الجانبية النادرة للقاح، وتهمل أحيانا ذكر ملايين الحالات التي نجت بسببه في المقابل، فإن مخك سيستدعي تلك الحالات النادرة فحسب، ويستدل بها على أن اللقاح قاتل وغير فعال، ستعتقد أن هذا دليل قاطع على أنك كنت محقا منذ البداية.
بخلاف ذلك، إذا نشأت في بيئة مؤمنة بنظرية المؤامرة، وأن الحكومات تسرق الشعوب، وشركات الأدوية تختلق الأمراض لبيع منتجاتها، سيكون من السهل عليك تقبل الشائعات التي تفيد بأن فيروس كوفيد-19 خُلِّق في المعمل، أو أن شركات الأدوية تحمل نوايا خبيثة وراء تصنيع اللقاحات، وتصبح أقل استعدادا لسماع الحقيقة أو حتى البحث وراءها بنفسك. يميل البشر إلى تصديق المعلومات التي تؤكد افتراضاتهم السابقة، وهو أمر أسهل بكثير من تغيير الافتراضات والمعتقدات القديمة بأخرى جديدة، ولو كانت أكثر دقة، فيما يطلق عليه "التحيز التأكيدي (Confirmation Bias)".
في حالات الكوارث والطوارئ، تتكاثر الإشاعات والمعلومات المغلوطة بنفس معدل انتشار الفيروسات، ودون التحري الدقيق والسعي وراء الحقيقة من السهل أن تنزلق في فخ التحيزات المعرفية التي قد تؤدي بك إلى رفض تلقّي اللقاح القادر على إنقاذ حياتك وحياة من تحب وحياة كل بشري على سطح الكوكب، ﻷن كل شخص غير ملقح قد يمثل مصنعا لإنتاج المتحورات.
على الرغم من ندرة حدوث الطفرات ذات الخطورة، مثل "أوميكرون" أو "دلتا"، فإننا شاهدنا بأنفسنا ما يمكن لمتحور واحد، نشأ داخل جسد شخص واحد فقط في بقعة واحدة من العالم، أن يفعل بالعالم بأكمله. سُجِّل المتحور دلتا لأول مرة في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2020 في ولاية ماهاراشترا الهندية، وسرعان ما أصبح هو المتحور الأكثر انتشارا على مستوى العالم؛ بفضل قدرته الأكبر على الانتشار. واليوم، يتكرر الأمر نفسه مع المتحور أوميكرون الذي يجتاح العالم.
إنها مسألة وقت قبل أن يظهر ذلك المتحور (X) القادر على مقاومة كل اللقاحات التي أُنتِجت حتى الآن، والقادر على إعادة العالم كله إلى نقطة الصفر والبحث عن لقاحات جديدة كليا، مهددا باستمرار فترات الإغلاق والأزمات الاقتصادية والمجاعات والفقر وارتفاع حالات الوَفَيَات لسنوات عدة قادمة. وبينما يدعي معارضو اللقاحات بأنها السبب الأساسي في حدوث الطفرات الخطيرة بوصفها رد فعل دفاعيا من الفيروس لينجو من دفاعاتنا، إلا أن الطفرات التي ينتج عنها متحورات كوفيد-19 تنشأ بشكل مختلف تماما(9).
في البداية، يستخدم الفيروس بروتين الحسكة (Spike Protein) الموجود على سطحِه للارتباط بالمستقبِلات الموجودة على سطح خلايا الغشاء المخاطي للأنف، والتي تمثل بوابات عبور الفيروس إلى الخلايا، ويقوم باختطاف الخلية وتحويلها إلى مصنع يصنع آلاف النسخ من الفيروس، حتى ينطلق إلى الخارج من جديد مع العطس أو السعال ويستكمل دورته داخل جسد آخر. أثناء عملية التصنيع، لا تكون كل النسخ مثالية، بعض "الطفرات" لا بد أن تحدث أثناء استنساخ الحمض النووي، مثلما تَغْفُل أنت عن حرف أو كلمة أثناء نسخك لنص مكوّن من آلاف الكلمات. (للمزيد اقرأ:
في معظم الأوقات تكون الطفرات صامتة، أي لا تغير من خصائص الفيروس من حيث قابلية الانتشار أو قوة الإصابة، والقلة الباقية من الطفرات تكتب شهادة وفاة الفيروس وتجعله غير قابل للتكاثر ويموت. في بعض الحالات النادرة تنتج المتحورات الأكثر خطورة أو انتشارا، مثل دلتا وأوميكرون، ولكن يحتاج الفيروس إلى عدة آلاف من عمليات النسخ حتى تحدث هذه التحورات الخطرة، ولا يمكن أن يحدث هذا إلا داخل جسد لم يتعرض للفيروس من قبل ولا يمتلك أي مناعة ضده، أي داخل أجساد مَن لم يتلقوا اللقاح قط، أو داخل جسد مريض ذي مناعة ضعيفة نسبيا، يتيح للفيروس فرصة مثالية للتكاثر دون أن يتدخل الجهاز المناعي في العملية ويوقفها(10).
يتغير فيروس كوفيد-19 بمعدل أبطأ بـ 4 مرات من فيروس الإنفلونزا الموسمية. هذا الأخير يتغير بسرعة شديدة تضطرنا إلى تصنيع لقاح جديد ضده كل عام، لحسن الحظ أن فيروس كوفيد-19 لا يتحور بالمعدل نفسه، وإلا ما انتهت هذه الجائحة أبدا. لذا من الصعب أن يكون السبب وراء ظهور المتحورات هو محاولة الهروب من دفاعات البشر مثلما يفعل فيروس الإنفلونزا الموسمية، بل بالأحرى هي عملية طبيعية ناتجة عن استمرار الفيروس في التكاثر بلا رادع، وارتكاب أخطاء النسخ التي قد تنتج يوما ما متحورا شرسا مقاوما لكل اللقاحات الموجودة الآن.
لا بديل عن الاستمرار في الإجراءات الاحترازية وارتداء الكمامات حتى بعد تلقي اللقاح، للحماية من انتشار المتحورات المقاومة للقاح.
في هذا السياق، تمكن الباحثون في الدراسة المنشورة في دورية "نيتشر (Nature)" من دراسة السيناريوهات المحتملة في حالة ظهور متحور مقاوم للقاحات (لنسّمه "المتحور X")، باستخدام نموذج محاكاة يأخذ في الاعتبار أعداد المصابين والمتعافين والمعرضين للإصابة. توصلت هذه الدراسة إلى نتيجتين تبدوان للوهلة الأولى متعارضتين، الأولى هي أنه كلما سارعنا إلى تقديم اللقاحات للمواطنين، أضعفنا فرص ظهور المتحور "X". أما النتيجة الثانية المثيرة للانتباه، فهي أنه في حالة تلقيح نسبة كبيرة من السكان، ولكن ليست كبيرة بما يكفي للوصول إلى مناعة القطيع، فإن المتحور "X" سيجد فرصة ذهبية للانتشار بين الجميع، سواء تلقوا اللقاح أم لا(11).
بالتدقيق في النتائج، يمكن تفسير هذا التعارض بغياب المنافسة. لو لُقِّح 10% فقط من السكان، فسيظل هناك 90% منهم معرضين للإصابة بالمتحورات التقليدية، ومن ثم لن يجد المتحور "X" أجسادا كافية ليصيبها وينتشر. ولكن إذا وصلت نسبة التلقيح إلى 60%، وكانت النسبة المطلوبة للوصول إلى مناعة القطيع 80%، فهذا يعني أننا تمكنّا من تحييد المتحورات التقليدية، ولكننا فتحنا الباب أمام المتحور "X" لغزو أجساد الجميع، في غياب المنافسة مع باقي المتحورات. الحل لهذه المعضلة يكمن في الاستمرار في الإجراءات الاحترازية، بالإضافة إلى تلقي اللقاح، حتى نضمن أنه في حالة ظهور المتحور "X" لن يستطيع الوصول إلى خلايا أجسادنا من الأساس.
إذن، في هذه المعركة التي لا يبدو أنها ستنتهي بين البشر وبين كوفيد-19، يبدو أنه لا توجد إجابة سهلة للسؤال الذي يشغل بال البشر: متى تنتهي هذه الجائحة؟ لو نجحت الدول في إقناع مواطنيها بتلقّي اللقاح، وتوفير هذا اللقاح للجميع، وتكاتفت دول العالم من أجل توفير اللقاحات لقارة أفريقيا والدول الفقيرة، ونجحنا في اختراع لقاح يصلح للأطفال الرضع، ثم نجحنا في الالتزام بالإجراءات الاحترازية، حينها ربما نستطيع أن نتنفس الصُّعَداء ونتذكر كيف كان شكل الحياة قبل ديسمبر/كانون الأول 2019.
هذه الخطة الطموحة ما زالت تواجه العديد من العقبات التقنية والمادية، وحتى الأخلاقية في ظل استئثار الدول الغنية بالحصة الأكبر من اللقاحات، ولكن إذا أضفنا العامل البشري بوصفه عائقا، سنجد أنفسنا أمام تحدٍّ حقيقي يتمثل في معارضي اللقاحات. في هذه الأزمة العالمية التي نمر بها، فإن تصرفات كل فرد في المجتمع ستنعكس لا محالة على باقي الأفراد بشكل أو بآخر.
المناعة المستحيلة
الوصول إلى "مناعة القطيع (Herd immunity)" هو الهدف الأسمى الذي تسعى إليه كل دول العالم الآن للقضاء على وباء كوفيد-19 والعودة إلى الحياة الطبيعية، وهناك طريقان للوصول إليها، إما أن يصاب ما نسبته 50-60% من السكان بالمرض ويحملوا الأجسام المضادة، لكن هذا قد يتسبب في كارثة طبية، أو أن يحصل الناس على الأجسام المضادة للفيروس من اللقاحات، هنا يسبق العالم الفيروس ويسدّ في وجهه كل الفرص السانحة لإصابة البشر والتكاثر داخل أجسادهم والاستمرار في التحور والانتشار. لو افترضنا أن اللقاحات تعمل على الحماية من العدوى بنسبة 100%، فإننا بحاجة إلى تلقيح 60% من سكان العالم حتى تعود الحياة إلى طبيعتها وتنتهي الجائحة. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، والوصول لمناعة القطيع في حالة كوفيد-19 هو أمر شديد الصعوبة لعدة أسباب.
أولا، نحن لا نمتلك حتى اليوم لقاحا يعطي مناعة بنسبة 100%؛ ما يعني أننا بحاجة لتلقيح عدد أكبر من السكان لتغطية هذا الفارق. ولتعقيد الأمر أكثر، فإنه كلما زادت قابلية انتشار الفيروس -مثل المتحور دلتا أو أوميكرون من فيروس كورونا- بات من الضروري تلقيح نسبة أكبر من السكان بسرعة.
هذه الخطة تعرقلها عقبات أخرى، خاصة في أفريقيا والدول الأكثر فقرا، حيث اللقاحات شحيحة، والموارد لا تكفي لإنتاج أو استيراد اللقاحات من أجل الجميع. في تقرير لمنظمة الصحة العالمية (WHO) نهاية أكتوبر/تشرين الماضي، فإن 6% فقط من سكان قارة أفريقيا تلقوا جرعة كاملة من اللقاح، بينما كان من المفترض أن تصل النسبة إلى 40% على الأقل بنهاية العام الحالي(1).
حتى اليوم، فإن نسبة المواطنين الذين تلقوا جرعة كاملة من اللقاحات المختلفة المطروحة تصل إلى 46.7% على مستوى العالم(2)، يتركز العدد الأكبر منهم في دول بعينها، مثل الصين والهند والولايات المتحدة وأوروبا، بينما بعض الدول الأفريقية لم تتخطَّ نسبة التلقيح لديها حاجز الـ1%! بالطبع حتى تعمل مناعة القطيع، لا بد أن يمتلك معظم سكان العالم مناعة ضد الفيروس، وليس كل دولة على حدة، إلا إذا قررت الدول غلق حدودها للأبد لمنع دخول الفيروس إليها من جديد من خلال المسافرين القادمين من الدول الأقل حظا، وهذا ما لن يحدث على أي حال.
ليت الأمر ينتهي هنا، ولكننا لا نمتلك بعدُ لقاحات مناسبة للأطفال الصغار، والأطفال الذين يولدون كل يوم بلا مناعة ضد الفيروس، ويعني ذلك أننا نعود من جديد إلى نقطة الصفر حيث يوجد عدد كبير من المواطنين بلا مناعة، ما يوفر بيئة خصبة للفيروس للتكاثر والانتشار رغم كل شيء، ويزيد من نسبة انتقال العدوى من الأطفال إلى البالغين غير الملقحين(3). بالإضافة إلى ذلك، فالمناعة التي نكتسبها من الإصابة أو اللقاح لا تدوم إلى الأبد، لذا كلما طال الوقت، فإن عددا أكبر من البشر سيكونون معرضين للإصابة من جديد. إنه سباق محموم لا ندري من سينجح فيه، نحن أم الفيروس.
بين المعارضين والخائفين
وحتى لو تمكنّا من التغلب على كل العقبات السابق ذكرها، سيتبقى أمامنا مشكلة كبرى ثابتة، وهي رافضو اللقاحات. بينما يخشى البعض تلقي اللقاح بفضل الشائعات التي تُهوّل الأعراض الجانبية للقاح، فإن البعض الآخر لا يؤمن بأهمية اللقاح من الأساس ويعتبرها مؤامرة ما، بينما هناك مجموعات كرست نشاطها من أجل محاربة اللقاحات في العموم، بدعوى أنها مواد كيماوية مجهولة، تضعف من مناعة الجسم، وتحرمه من فرصة الإصابة بالعدوى وتكوين مناعته بشكل طبيعي. (للمزيد اقرأ: "
يجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل لمشاهدة الرابط المخفي
)تجتاح مظاهرات "معارضو اللقاحات (Anti vaxxers)" المملكة المتحدة وإيطاليا وبلجيكا والعديد من الدول الأوروبية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وأستراليا وحتى الهند، وهؤلاء يرون فرض اللقاحات تقييدا لحريتهم وسلبا لحقوقهم بوصفهم مواطنين. وصل الأمر في ألمانيا إلى التهديد بالقتل، حيث قُبض على مجموعة كانت تخطط لاغتيال "مايكل كيتشمر"، محافظ ساكسونيا، بسبب تأييده للقاحات، بخلاف تلقي العديد من السياسيين والإعلاميين المؤيدين للقاحات صناديق تحتوي تهديدا ضمنيا بالقتل لو استمرت ألمانيا في فرض اللقاحات الإجبارية على الجميع(4).
بدأ الأمر يتخطى دعوات مقاطعة اللقاحات إلى الضغط على من تلقوا اللقاح بالفعل، بنشر وصفات "للتخلص من اللقاح بعد الحصول عليه"، إذ ادّعت إحدى معارضات اللقاح في فيديو على منصة تيك توك (TikTok) أنه يمكن التخلص من أثر اللقاح على الجسم عن طريق غمره في حمام من صودا الخَبز ومادة البوراكس المنظفة، كما أن جماعات معارضة اللقاح تدّعي أن الحجامة طريقة فعالة للتخلص من آثار اللقاح. كل هذا غير صحيح، العملية الفسيولوجية التي تحدث داخل الجسم عندما يُحقَن اللقاح في عضلات الذراع، تتضمن تفاعلات عدة في الجهاز المناعي، ينتج عنها أجسام مضادة، ولا يوجد طريقة علمية أو غير علمية يمكنها أن تلغي حدوث هذه التفاعلات(5).
لا تخلو المنطقة العربية من مظاهر معارضة اللقاح، ولكن بشكل قد يختلف قليلا، فعوضا عن تشكيل مجموعات معارضة للقاحات، يعبّر الأفراد عن قلقهم من تلقي اللقاح وتخوفاتهم من الأعراض الجانبية "النادرة" التي سمعوا أنها أصابت بعض الأشخاص، سواء من التلفاز أو من المحيطين بهم. أخبار كهذه تجد بيئة خصبة للانتشار في المجتمعات التي لا تمتلك وعيا صحيا ملائما، ويُحاك حولها الكثير من الأساطير والأكاذيب، ومن ثم يصبح تصديق أي شيء سهلا جدا، بدءا من نظريات المؤامرة، وحتى الوصفات الطبيعية البديلة للقاح. وكما تشير البيانات، تصل نسبة "التردد تجاه التحصين" في الوطن العربي بين 33%-64% في مصر والعراق وتونس(6).
يُعرف "التردد تجاه التحصين (Vaccine Hesitancy)" بأنه تردد الأفراد في تلقي اللقاح خوفا من الأعراض الجانبية، أو تفضيل الانتظار لمدة أطول حتى تصبح اللقاحات أكثر أمانا أو تُدرَس بشكل أفضل. أحد الأسباب المهمة للخوف من لقاحات كوفيد-19 هي السرعة التي صُنِعت بها، إذ يؤمن الناس أن اللقاحات لا بد أن تُدرَس لعدة سنوات أولا قبل إتاحتها للاستخدام، وهذا ما لم يحدث في حالة كوفيد، إذ استُخدِم أول لقاح ضد الفيروس، وهو لقاح شركة فايزر، في ديسمبر/كانون الأول 2020، بعد 7 أشهر فقط من بدء عملية الاختبار والتصنيع. (للمزيد اقرأ: "
يجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل لمشاهدة الرابط المخفي
)ربما كان العالم محظوظا هذه المرة، فحتى ظهور فيروس كوفيد-19، استغرق أسرع لقاح تم إنتاجه في التاريخ 4 سنوات كاملة منذ الخطوة الأولى لدراسة الفيروس وحتى وصول اللقاح للجماهير، وهو لقاح النكاف الذي أُنتِج في الستينات، لكن في حالة كوفيد-19، تضافرت عدة عوامل أدت إلى هذه السرعة الصاروخية في إنتاج اللقاح الأول؛ العامل الأول هو أن فيروس كورونا من عائلة الفيروسات التاجية (Coronaviruses)، وهي فيروسات معروفة ومنتشرة بشدة حول العالم، وقد دُرِست باستفاضة من قبل، خاصة أن فردين آخرين من العائلة نفسها كادا أن يتسببا في جوائح عالمية عام 2002 و2012، وهما السارس (SARS) والميرس (MERS).
الأمر الآخر، هو الميزانية الضخمة التي خُصِّصت حول العالم من أجل إنتاج اللقاحات، وهو أمر لا يحدث في اﻷوقات العادية، لكن حالة الطوارئ الكبرى التي غلّفت الكوكب عقب انتشار الفيروس الشرس، دفعت أصحاب رؤوس الأموال والحكومات لضخّ السيولة في سبيل إنقاذ البشرية، ساعد هذا على إجراء عدة تجارب سريرية متوازية، وتوفير الكثير من الوقت لإعادة تجربة كل لقاح ورصد فعاليّته وأعراضه الجانبية. ولا ننسى تراكم خبرات عدة سنوات من تطوير طرق تصنيع اللقاحات المختلفة، والتي استُفيد منها خلال تصنيع لقاحات كوفيد-19، حيث لم يضطر العلماء إلى اختراع العجلة من جديد. نجحت هذه المساعي، حيث وصلت نسبة الحماية من الإصابة بعد تلقي جرعتين من لقاح فايزر إلى 95%، بالإضافة إلى لقاح أسترازينيكا الذي يوفر حماية بنسبة 63%(7).
تحيّزات خطرة
يمكننا التغلغل بشكل أعمق في مسألة رفض اللقاحات لفهم الأسباب التي قد تدفع شخصا ما لرفض الشيء القادر على إنقاذ حياته وحياة من حوله، وقد تعطينا نظريات التحيز المعرفي تفسيرا لبعض أسباب الرفض.عندما تجد نفسك في صراع بين فكرتين متضادتين، فكرة أن اللقاح ضروري للوقاية من الإصابة، وفكرة أن اللقاح قد يسبب بعض الأعراض الجانبية الخطيرة في بعض الأحيان، يسمى هذا بـ"التنافر المعرفي (Cognitive dissonance)"، حيث تتصارع داخلك فكرتان متنافرتان، ومن أجل إسكات القلق الناجم عن هذا الصراع، سوف تلجأ إلى تغيير إحدى الفكرتين للتوافق مع الفكرة الأخرى، كأن تبرر لذاتك بأنه يمكنك الاكتفاء بالإجراءات الاحترازية بدلا من تلقي اللقاح، وبهذا تُرضي ضميرك القَلِق(8). بالطبع إذا أضفنا المعلومة التي تقول إن الفيروس يستغل أجساد الأشخاص غير الملقحين ليتكاثر بشكل أسرع وينتج متحورات أكثر قد تتسبب في كارثة جديدة، فقد تصاب بتنافر معرفي جديد. في هذه الحالة، إما أن ترضخ وتتلقى اللقاح، وإما أن تجد لنفسك مبررا جديدا مقنعا يجعلك لا تتلقاه.
على الجانب الآخر، قد تعتقد أنه من الأفضل ألا تتخذ أي خطوة على الإطلاق، بدلا من أن تتخذ قرارا قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، كأن تصاب بأحد الأعراض الجانبية النادرة لأحد اللقاحات. يسمى هذا بـ"تحيز الإغفال (Omission bias)"، حيث تعتقد أن الامتناع عن تلقي اللقاح أكثر أمانا من اتخاذ خطوة تلقي اللقاح ثم مواجهة الأعراض الجانبية لاحقا، رغم علمك بالأعراض الجانبية الخطيرة الناتجة عن الإصابة بالفيروس ذاته، ولكن يبدو أن انتظار أن تأتي الإصابة من حيث لا تدري يعطي شعورا أكثر بالأمان من اتخاذ خطوة للأمام نحو الحماية.
قد تعتقد لسبب ما أن اللقاحات قاتلة أو غير فعالة، وفي هذه الحالة، ستلتفت دوما إلى المعلومات التي تؤكد اعتقادك، وتتجاهل كل ما يعارضه، فيما يسمى "بالاستدلال بالتوافر (Availability heuristic)"، أي أنك تستدل على معتقداتك بالمعلومات الأكثر توافرا أمامك، وحيث إن مواقع التواصل والأخبار تركز غالبا على الأعراض الجانبية النادرة للقاح، وتهمل أحيانا ذكر ملايين الحالات التي نجت بسببه في المقابل، فإن مخك سيستدعي تلك الحالات النادرة فحسب، ويستدل بها على أن اللقاح قاتل وغير فعال، ستعتقد أن هذا دليل قاطع على أنك كنت محقا منذ البداية.
بخلاف ذلك، إذا نشأت في بيئة مؤمنة بنظرية المؤامرة، وأن الحكومات تسرق الشعوب، وشركات الأدوية تختلق الأمراض لبيع منتجاتها، سيكون من السهل عليك تقبل الشائعات التي تفيد بأن فيروس كوفيد-19 خُلِّق في المعمل، أو أن شركات الأدوية تحمل نوايا خبيثة وراء تصنيع اللقاحات، وتصبح أقل استعدادا لسماع الحقيقة أو حتى البحث وراءها بنفسك. يميل البشر إلى تصديق المعلومات التي تؤكد افتراضاتهم السابقة، وهو أمر أسهل بكثير من تغيير الافتراضات والمعتقدات القديمة بأخرى جديدة، ولو كانت أكثر دقة، فيما يطلق عليه "التحيز التأكيدي (Confirmation Bias)".
في حالات الكوارث والطوارئ، تتكاثر الإشاعات والمعلومات المغلوطة بنفس معدل انتشار الفيروسات، ودون التحري الدقيق والسعي وراء الحقيقة من السهل أن تنزلق في فخ التحيزات المعرفية التي قد تؤدي بك إلى رفض تلقّي اللقاح القادر على إنقاذ حياتك وحياة من تحب وحياة كل بشري على سطح الكوكب، ﻷن كل شخص غير ملقح قد يمثل مصنعا لإنتاج المتحورات.
قنبلة موقوتة
على الرغم من ندرة حدوث الطفرات ذات الخطورة، مثل "أوميكرون" أو "دلتا"، فإننا شاهدنا بأنفسنا ما يمكن لمتحور واحد، نشأ داخل جسد شخص واحد فقط في بقعة واحدة من العالم، أن يفعل بالعالم بأكمله. سُجِّل المتحور دلتا لأول مرة في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2020 في ولاية ماهاراشترا الهندية، وسرعان ما أصبح هو المتحور الأكثر انتشارا على مستوى العالم؛ بفضل قدرته الأكبر على الانتشار. واليوم، يتكرر الأمر نفسه مع المتحور أوميكرون الذي يجتاح العالم.
إنها مسألة وقت قبل أن يظهر ذلك المتحور (X) القادر على مقاومة كل اللقاحات التي أُنتِجت حتى الآن، والقادر على إعادة العالم كله إلى نقطة الصفر والبحث عن لقاحات جديدة كليا، مهددا باستمرار فترات الإغلاق والأزمات الاقتصادية والمجاعات والفقر وارتفاع حالات الوَفَيَات لسنوات عدة قادمة. وبينما يدعي معارضو اللقاحات بأنها السبب الأساسي في حدوث الطفرات الخطيرة بوصفها رد فعل دفاعيا من الفيروس لينجو من دفاعاتنا، إلا أن الطفرات التي ينتج عنها متحورات كوفيد-19 تنشأ بشكل مختلف تماما(9).
في البداية، يستخدم الفيروس بروتين الحسكة (Spike Protein) الموجود على سطحِه للارتباط بالمستقبِلات الموجودة على سطح خلايا الغشاء المخاطي للأنف، والتي تمثل بوابات عبور الفيروس إلى الخلايا، ويقوم باختطاف الخلية وتحويلها إلى مصنع يصنع آلاف النسخ من الفيروس، حتى ينطلق إلى الخارج من جديد مع العطس أو السعال ويستكمل دورته داخل جسد آخر. أثناء عملية التصنيع، لا تكون كل النسخ مثالية، بعض "الطفرات" لا بد أن تحدث أثناء استنساخ الحمض النووي، مثلما تَغْفُل أنت عن حرف أو كلمة أثناء نسخك لنص مكوّن من آلاف الكلمات. (للمزيد اقرأ:
يجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل لمشاهدة الرابط المخفي
)في معظم الأوقات تكون الطفرات صامتة، أي لا تغير من خصائص الفيروس من حيث قابلية الانتشار أو قوة الإصابة، والقلة الباقية من الطفرات تكتب شهادة وفاة الفيروس وتجعله غير قابل للتكاثر ويموت. في بعض الحالات النادرة تنتج المتحورات الأكثر خطورة أو انتشارا، مثل دلتا وأوميكرون، ولكن يحتاج الفيروس إلى عدة آلاف من عمليات النسخ حتى تحدث هذه التحورات الخطرة، ولا يمكن أن يحدث هذا إلا داخل جسد لم يتعرض للفيروس من قبل ولا يمتلك أي مناعة ضده، أي داخل أجساد مَن لم يتلقوا اللقاح قط، أو داخل جسد مريض ذي مناعة ضعيفة نسبيا، يتيح للفيروس فرصة مثالية للتكاثر دون أن يتدخل الجهاز المناعي في العملية ويوقفها(10).
يتغير فيروس كوفيد-19 بمعدل أبطأ بـ 4 مرات من فيروس الإنفلونزا الموسمية. هذا الأخير يتغير بسرعة شديدة تضطرنا إلى تصنيع لقاح جديد ضده كل عام، لحسن الحظ أن فيروس كوفيد-19 لا يتحور بالمعدل نفسه، وإلا ما انتهت هذه الجائحة أبدا. لذا من الصعب أن يكون السبب وراء ظهور المتحورات هو محاولة الهروب من دفاعات البشر مثلما يفعل فيروس الإنفلونزا الموسمية، بل بالأحرى هي عملية طبيعية ناتجة عن استمرار الفيروس في التكاثر بلا رادع، وارتكاب أخطاء النسخ التي قد تنتج يوما ما متحورا شرسا مقاوما لكل اللقاحات الموجودة الآن.
المعضلة الأخيرة
لا يكفي التأكد من إعطاء اللقاحات لأكبر عدد ممكن من البشر لمنع ظهور المتحورات، بل يجب أيضا الحد من انتشار الفيروس باتباع قواعد التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات في الأماكن المزدحمة وغسل اليدين بالصابون باستمرار، وإلا سنكون معرضين لخطر تفشي أحد المتحورات المقاوِمة للقاحات.في هذا السياق، تمكن الباحثون في الدراسة المنشورة في دورية "نيتشر (Nature)" من دراسة السيناريوهات المحتملة في حالة ظهور متحور مقاوم للقاحات (لنسّمه "المتحور X")، باستخدام نموذج محاكاة يأخذ في الاعتبار أعداد المصابين والمتعافين والمعرضين للإصابة. توصلت هذه الدراسة إلى نتيجتين تبدوان للوهلة الأولى متعارضتين، الأولى هي أنه كلما سارعنا إلى تقديم اللقاحات للمواطنين، أضعفنا فرص ظهور المتحور "X". أما النتيجة الثانية المثيرة للانتباه، فهي أنه في حالة تلقيح نسبة كبيرة من السكان، ولكن ليست كبيرة بما يكفي للوصول إلى مناعة القطيع، فإن المتحور "X" سيجد فرصة ذهبية للانتشار بين الجميع، سواء تلقوا اللقاح أم لا(11).
بالتدقيق في النتائج، يمكن تفسير هذا التعارض بغياب المنافسة. لو لُقِّح 10% فقط من السكان، فسيظل هناك 90% منهم معرضين للإصابة بالمتحورات التقليدية، ومن ثم لن يجد المتحور "X" أجسادا كافية ليصيبها وينتشر. ولكن إذا وصلت نسبة التلقيح إلى 60%، وكانت النسبة المطلوبة للوصول إلى مناعة القطيع 80%، فهذا يعني أننا تمكنّا من تحييد المتحورات التقليدية، ولكننا فتحنا الباب أمام المتحور "X" لغزو أجساد الجميع، في غياب المنافسة مع باقي المتحورات. الحل لهذه المعضلة يكمن في الاستمرار في الإجراءات الاحترازية، بالإضافة إلى تلقي اللقاح، حتى نضمن أنه في حالة ظهور المتحور "X" لن يستطيع الوصول إلى خلايا أجسادنا من الأساس.
إذن، في هذه المعركة التي لا يبدو أنها ستنتهي بين البشر وبين كوفيد-19، يبدو أنه لا توجد إجابة سهلة للسؤال الذي يشغل بال البشر: متى تنتهي هذه الجائحة؟ لو نجحت الدول في إقناع مواطنيها بتلقّي اللقاح، وتوفير هذا اللقاح للجميع، وتكاتفت دول العالم من أجل توفير اللقاحات لقارة أفريقيا والدول الفقيرة، ونجحنا في اختراع لقاح يصلح للأطفال الرضع، ثم نجحنا في الالتزام بالإجراءات الاحترازية، حينها ربما نستطيع أن نتنفس الصُّعَداء ونتذكر كيف كان شكل الحياة قبل ديسمبر/كانون الأول 2019.